أن لا ينتهي شيء أبداً
نصف حياة
يبدو أنّني عالقٌ في الحياة اليوميّة
إنّني عالقٌ في هذا الوقت المسمّى “الآن”
أحسب في رأسي كيف يستطيع المرء عيش حيواتِه؛
العشرين والثلاثين والأربعين والخمسين
كم أنّ العيشَ سيكون غدًا أجملَ
وكمّ أنّني لم أتعلّم بعدُ كيف أصير
يا إلهي، وهل يستطيع المرء أن يصير شيئاً؟
لم أدرك هذه الحماقة بعد
أفكّر أن أسأل كلّ من عاشوا وكلّ من ماتوا
لماذا عندما نحبّ يكبر أحبّتنا أسرع؟
لماذا نختار أن نحيا في التعب
من جعل عاطفتنا تجاه الكِبَر شديدة
وكأنّ الإنسان يحيا في عجزه؟
نكفّ عن كوننا يافعين
عندما نعرف أخيراً أين نذهب بأيدينا
عندما يروّضها التخلّي
كأنّه الماء السّاخن الذي يسكب فوق سمكة حيّة
ننتهي عندما نفرغ جيوبنا من أيدي الآخرين
لا أريد لأحبّتي أن يكبروا
كلّ ما أريده فقط
أن لا ينتهي شيء أبداً
وأنّ أكفّ عن العيش نصف حياة
فلا أحد يعرف شكل النهاية
إلّا الموتى
والذين عاشوا وحيدين.
■ ■ ■
يد العمر الفائت
أوراق يديكَ غائرة في الشتاء
تنتظر مسلسل الزمن المرتقب
إنه الكِبر
تكبر دون شقاوة
فقط شخص جيّدٌ على كنبة
مستوحدٌ مع رفوف مكتبته
تستلقي
إنّكَ لست هي لكي تستلقي مثلها
ظنّاً منك أنك بذلك تستحضر وجودها الغائب
لكنّ الوضعيّة لا تلائم رجلا أحبّ وحدته أكثر من امرأته
لأنّه لولا أفكار الوحدة لكنت وحيداً أكثر
تصنع أشياءَ لكي تذكّرك
تضع يدك على وجهك
كما كانت تفعل هي معك
تحاول استحضار الصورة
لكنّك تحتاج أن تصدّق تلك المخيّلة إلى أبعد الحدود
إلى أن تصير أنت المرأة التي غابت عنك
لكي تكون لمستك حينها عقلانيّة
لكنّك سرعان ما تدرك
أنّ هذه اليد البائسة هي يدك أنت
يدٌ كبيرة مثل العمر الذي فاتك
وها هي الآن تتبدّد مثل مطر فوق عشب
لكنّها لك أنت
ولم تترك للآخرين
كما فعل رأسك
الزائغ في ذكراهم
■ ■ ■
الأيدي معبدُ الآثام
وجهيَ المخبّأُ فوق سرير كتفك
طرف الثوب النازل عن سريري
مثل طير مذبوح
إنّه لي
ويدك التي وضعتها على وجهي
أصبحت لي
مخدّة للنوم العميق الكسول
وكلّ يوم أسرق منك كويكباً
لي أحزان يا بنت
كأنّني المسيح
لا أفتح ذراعيَّ للعناق
بقدر ما أطلب الموت على خشبات عمري
لكنّها يداكِ معبد لآثامي
■ ■ ■
زيت الجرّار دموعه
لم تضع امرأةٌ يدَيها على وجهي
لكي تمسح عنه الشّوك والظُنون، والبلاغة
لا أريد أن أكون بليغاً
أريد فقط أن أتمكّن من الكلام
أن أصف حالي ببساطة
كمن فاض وجهه في ابتسامة دون جهد
كم تلاشى الصدأ عن وجهي المحموم
كم ذاب مثل الثلج في قماشة راحتيك
كانت العاطفة لقاحاً
كيف صارت عدوى؟
كيف صارت سرّاً ينبت داخل رجل ميْت؟
مثلما تنبت الأضواء في العيون الرحيمة
أعرف أنّه أحياناً يجدر بي أن أُرَحَّل
إلى بؤرة سيّارات مكسورة
إذْ أشعر وكأنّني جَرّارٌ قديم مركون قرب حقل
منسيّ
كأنّ جسدي دُقّت فيه مسامير الأيّام الرطبة
وبات متصلّباً من شدّة ما بحث عن صاحب
لكنّني وبالرغم من كلّ ذلك
لم أركض لمعانقة أيدي السائحين والمشاة
لم أطلب أن أُنقل فوق أكتافهم العابرة
ظننتُ أنّ زهور الصبّار يمكن ضمّها
لأنّنا نبتنا معاً ولا أعرف غيرها
شممتها ولم أفهم لماذا بكيت
لقد بكيت طوال حياتي
ولم يكن ذلك بسبب حساسيّة الربيع
بكيت وظننت أنّه من الطبيعيّ
أن يرشح الجرّار القديم زيته
لم أكن أعرف أنّني كنت أعيش
مجاوراً الألمَ طوال تلك السنين
■ ■ ■
تعقيم
أيدينا التي نغسلها كلّ يوم
حبّذا لو تنطق يوماً ما
كما علّمونا في حصص الدّين
لعلّها تشكونا إلى الله
وتُخبره كيف أنّنا جرّدناها من ذكرياتها
من جروحها القديمة
وروائح عابريها
من دمعها السخيّ
الذي ذرفناه فوقها
كما يذرف البحر نفسه فوق سفينة ليعانقها
ستسأل الله، ماذا حدث للجرح المتروك على إصبعها منذ الطفولة
الذي يذكّرها بفرض صلاة قديم كنت قد فوّته
لقد عقّمنا عمراً كاملاً بالفعل
مسحنا من ذاكرتها كلّ اللقاءات
التي كنّا نتعرّف فيها على يد إحداهن قبل وجهها
لقد أصابها التطهير بالخرف
عادت بيضاء كقطعة قطنيّة
جفّت بسبب البُعد
وذبلت لأنّها لم تعد تذكر اسم صاحبها
■ ■ ■
للحزن قبضة رجل
كان يبدو على وجهها
أنّ ثمّة شخصاً ما ينتظر عودتها
وأنّ المسافة بينهما أرهقتها
ترى ذلك في عينيها وفي تلفُّتها الدائم
تمسك هاتفها بحذر شديد
تشدّ عليه بقسوة
كأنّها نسيت يد شخص تحبّه بين يديها
كأنّ الأغراض كلَّها هي يده بين يديها
أسقطت يدها برقّة فوق فخذها
كأنّها تريح قبضتها قليلاً
لأنّها اعتادت أن تتعب أمامه هكذا
لأنّه اعتاد أن يلحق بقبضتها أينما ابتعدت
لأنّها فكّرت فيه بشدّة
حتّى سبقها جسدُها في التودّد لصورته في رأسها
كانت تبدو جميلة من أجل أحدهم
لكنّك تعرفها حقّ المعرفة
وتعرف أنّه الحزن
هو ما تتركه وحيداً في بيتها
لكي تهرع إليه راكضةً كلّ يوم
■ ■ ■
امسحي البُعد قليلاً
عندما ترحلين
لا تُلوّحي لي من بعيد
اقتربي وامسحي البعد قليلاً
ثمّ ضعي كفّك فوق كفّي
ولوّحي كأنّ بيننا زجاجاً سميكاً يملؤه ضباب أفواهنا
قلبي لا يخفق
إلّا للّمسات الذاهبة ككلاب أضاعت طريق بيتها
أن تلوّحي لي من بعيد
هذا يعني أن تمسحي غباري
وأن تُلوّحي لي من قريب
- شاعر من لبنان
- باسل الأمين
Comments are closed.