الشاعر أحمد مثيني العمري عاشق العلم والتعليم والحياة الحضرية.
اولا الشاعر.
أحمد مثنى ثابت العمري.
شاعر مرموق صال وجال في عالم الشعر الشعبي. رحل عن حياتنا الفانية
قبل عامين تقريبا وهو من جيل الآباء
الذين عاشوا طفولتهم وشبابهم في عهد الاحتلال الانجليزي للجنوب.
نشأ وعاش في وادي العمري
ذلك الوادي الخصيب الذي يمثل
عمقا لمنطقة حالمين في موقعه وسكانه. بلاد العمري التي رفدت الساحة برجال أفذاذ على مستوى النضال والشعر والعمل الاجتماعي
والخيري وشق الطرقات والجيش
والأمن والتربية والتعليم وغيرها.
للشاعر قصائد كثيرة مخطوطة مجموعة تنتظر العناية بها وطباعتها
و كذا استكمال جمع شعره.
ثانيا النص.
ابدأ بك ادعيك يا من للدعاء تسمع
سهل لعبدك ويسر له وكن عونه
بانطلب الخير وغير الخير ما ينفع
ما تكسب النفس فيه النفس مرهونة
من عصر آدم وحد ينزل وحد يطلع
وايام فيها لها حدين مسنونة
شيبت يا دهر هل يا دهر با ترجع
تسمع لشرحي وتعرف ايش مضمونه
اريد سني فقط في ست فوق أربع
وادخل العلم في صفحات مهمونة
بالعلم باعيش فيه أرتاح واتمتع
وامتع النفس ذي للعلم محنونة
ذي ما دخل علم أصعب مر يتجرع
يا كم وكم ناس من مثلي يعانونه
عايش مضيع وطرفي بالسهر موجع
لا فوق لتعاب ذي بالسر مكنونة
حاولت أقنع ولكن ما قدرت اقنع
الرأس شيب ونفس الحر مغبونة
من قال بالصدق قالوا ذاك يتسرع
والكذب موجود والصدقي يعادونه
الكذب والصدق طول الوقت تتصارع
كل بقصده ينفذ حسب قانونه
كفيت قولي كفى يا هاجسي واقطع
يا عز لخوان عفوا لا تلومونه .
ثالثا محاورة النص .
بدأ الشاعر قصيدته بذكر الله داعيا إياه وهذه عادة الشعراء الشعبيين إذ يبدأون قصائدهم بسم الله او بدعائه والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويختمون قصائدهم بالصلاة على النبي. شاعرنا هنا التزم ببعض ذلك التقليد وتجاوز بعضه كما سنذكر لاحقاً وللشعراء في هذا التقليد معاني مختلفة لعلها تأتي منسجمة مع ما بعدها من أفكار النص ومضامينه اما شاعرنا هنا فقد ارتبط مطلعهُ بدعاء الله من غير أن يذكر لفظ الجلالة أو اي اسم من أسمائه الحسنى تعالى ولكنه كنى عنه بهذه العبارة أو بهذه الجملة( يامن للدعاء تسمع) وهي أول كناية في النص وقد كانت بليغة ومؤثرة توحي بحاجة الشاعر الملحة إلى مادعا به.
لقد طلب من ربه تعالى التسهيل واليسر والعون وهذا ما يحتاجه الشاعر من بين كل الأمور الأخرى وما أكثرها لقد كان الشاعر يعاني من ضنك العيش وصعوبته ثم ذكر محترزا أنه لن يطلب غير الخير من خالقه لأن غير الخير هو الشر وهو ليس من اصحابه مستدلا على ذلك حين قال ( ماتكسب النفس فيه النفس مرهونة )
مضمنا قوله تعالى( كل نفس بما كسبت رهينة ) ويبدو ان الشاعر من النوع الحذر والمحترس والمحترز حتى في شعره فكان يظهر شيئا ويخفي أشياء.
وهاهو يفلسف الدهر والحياة ويعود بنا إلى عهد آدم عليه السلام ويرى ببصيرته الحكيمة أن الحياة صراع منذ ذلك العهد حين قال:
( من عصر آدم وحد ينزل وحد يطلع )
كلام بسيط ولكنه يلخص رحلة الحياة على الأرض فالنزول يقابل الطلوع فهما ثنائية ضدية وقد زخر النص بالثنائيات الضدية من مثل الخير والشر والصدق والكذب والطلوع والنزول والشباب والشيب والطموح والعجز والعقل والنفس وحياة البداوة وحياة الحضارة وغير ذلك .
والطلوع والنزول هنا ليسا فعلين حسيين فالطلوع يعني فيما يعني العيش والرخاء والانتصار والظهور والتحضر وغير ذلك بينما النزول يعني الموت و الهزيمة والبؤس والفقر والجهل وغير ذلك ولكنهما متداخلان كل التداخل فمن كان طالعا في الأمس تراه نازلا اليوم والعكس صحيح ولهذا قال الشاعر:
( وايامِ فيها لها حدين مسنونة ) فالفاعل هنا هو الأيام التي لها حدان نقيضان.
ثم يلتفت الشاعر إلى الدهر مخاطبا إياه كأنه إنسان يعقل مايسمع فهو هنا يناديه ويسأله من باب التمني كما قال البلاغيون فهو يشكو إليه حين قال:
( شيبت يادهر هل يادهر تتراجع ؟) فيا ترى من هو الذي شاب اهو الشاعر ام الدهر نفسه على اعتبار أن الدهر هو عمر الشاعر نفسه دهره أي عمره ، ومهما يكن فإن الشاعر هو الذي شاب رأسه فهل أراد ان يسقط ذلك على الدهر هروبا من الشيب والعجز والموت، لقد كرر كلمة الدهر مرتين في الشطر مرة يناديه شاكيا ومرة يسأله طالبا منه المستحيل وهو العودة إلى الوراء كما قال الشاعر ابن الرومي :
الا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب.
إن رثاء الشباب وشكوى الشيب موضوع عريق في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا هذا ولكن شاعرنا كان في تمنيه هذا حصيفا ومتفردا فهو لم يشأ العودة إلى عهد الشباب ولكنه أراد العودة إلى زمن الطفولة ولم يتمن عودة اللهو والاستمتاع والصحة والشباب بقدر ما أراد أن يعود إلى عهد التلمذة إلى عمر العشر سنوات حيث قال:
( أريد سني فقط في ست فوق اربع )
وإذا كان الشاعر يهفو إلى العلم والتعلم في نصه هذا فإنه أراد أن يعلم الدهر هنا بينما الدهر نفسه هو أستاذ الشاعر إذ لم يتعلم لا في جامعات ولا في مدارس، ولكنه خاطب الدهر بتأني ورجاء وطلب عودته ثم قال له
( تسمع لشرحي وتعرف أيش مضمونه )
لقد أراد من الدهر التأني والتفهم والاستماع إلى مطالبه التي أحس بها مع نهاية العمر لقد أراد حياة جديدة غير التي سلفت وهناك كثير من الناس ممن بلغ الستين اوالسبعين او اكثر لو أتيح له أن يعيش عمره من جديد كما عاشه لرفض ذلك العرض من شدة ما عانى وقاسى او لكي لا يذهب ما انجزه خلال العمر وقد كان العقاد رحمه الله من هؤلاء وكان قد بلغ السبعين من العمر .
شاعرنا هنا تمنى أن يعود إلى الطفولة لا لشيء ولكن لكي يتعلم ويحمل حقيبة صغيرة ويذهب صباحا مع التلاميذ إلى المدرسة فالحياة في العلم والتعلم كما يرى أن تكون فهناك تكمن السعادة والراحة والاستمتاع، لقد ذكر لفظة( العلم) في النص اربع مرات وسمى أحد أبنائه(عالم ) . فلله دره من شاعر حين رأى جنته الأرضية في العلم والتعلم لأنهما طريق التطور والرخاء وسهولة العيش ولأن العلم نور الحياة والجهل جانبها المظلم ، فياليت شبابنا اليوم يعلمون فيتعلمون !!
فلاحظ معي قوله :
(أريد سني فقط في ست فوق أربع
وأدخل العلم في صفحات مهمونة بالعلم باعيش فيه أرتاح واتمتع
وامتع النفس ذي للعلم محنونة ذي ما دخل علم أصعب مّر يتجرع ياكم وكم ناس من مثلي يعانونه عايش مضيع وطرفي بالسهر موجع لافوق لتعاب ذي بالسر مكنونة ).
هذه لوحة العلم إذن في القصيدة،
لقد رأى أن سعادته تكمن في العلم كوسيلة وغاية بينما شقاؤه يكمن في كونه لم يتعلم، مع أن الشاعر لم يكن جاهلاً فقد تعلم من دهره الكثير ولكنه يريد العلم الذي يرفع ويجعل صاحبه ذا شأن انه شاعر طموح وأن كان هذا الطموح قد جاء متأخراً ولكن لا لوم عليه فقد نشأ في قريته طفلا فشابا قبل استقلال الجنوب وقبل أن يصل التعليم الحديث إليها فعاش لأرضه ومدرجاته واغنامه في واقع لم يسره ولم يلب طموحه وكثيراً مايكون هذا ديدن الشعراء لقد ارتبطوا بحب المعرفة حتى في الأزمنة والأمكنة التي لا يوجد فيها تعليم منظم مثل العصر الجاهلي ولكنهم كانوا يتلقون دروس الحياة
فينقلونها للناس حتى لقد عمر بن الخطاب رضي الله عنه( لقد كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم غيره) ولم يقل الشاعر انا أريد أن اتعلم ولكنه قال ( أدخل العلم) ثم قال ( ذي مادخل علم ) لقد ارتبط العلم عنده بالدخول كأن العلم عالم مختلف يدخل فيه الإنسان فنحن نقول دخل التلميذ المدرسة ودخل فلان الجامعة وهكذا .
إن حلم الشاعر طفولي لأنه حرم من ذلك في عهد الطفولة بينما قد يأتي شاعر متعلم بلغ من العلم درجات وانتقل إلى وسط اجتماعي آخر نظراً لعلمه فقد تجده يحن إلى حياة القرية والأرض والزرع والمراعي والمواشي أما شاعرنا هذا فقد حن إلى الحياة الحضرية التي ارتقت بسبب العلم ، إن القصيدة برمتها تمثل شوق البداوة إلى الحضارة.
لقد لاحظ الشاعر الفرق بين الذين تعلموا والذين لم يتعلموا ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) فياليت شبابنا يعلمون فيتعلمون!!
ولكن ماذا أراد الشاعر بكلمة مهمونة حين قال( وأدخل العلم في صفحات مهمونة ) فأنا لم أسمع بهذه الكلمة من قبل وما اظنها كلمه عامية منتشرة في محيط الشاعر فأنا من أهل ذلك المحيط لعله، أراد صفحات مهمة فأضاف الواو والنون لاستقامة الوزن والقافية ولعل هناك خطأ في رواية البيت.
إن الضياع الذي يحس به الشاعر مردة إلى عدم تعليمه ومع هذا لم أجد شاعرا قط يذكر في شعره أن سهره وارقه كان بسبب فقدانه للعلم فما أشد عشق الشاعر للعلم وما اشقاه من دونه، ولكنه حنين الإنسان إلى الأفضل والأكمل والأجمل.
ولأن الشاعر كما ذكرت حذر ومحترس وكتوم فقد مضى إلى أن تعبه بسبب عدم تعلمه يضاف إلى ذلك أتعاب أخرى شقي بها ولكنها مكنونة السر لقد اخفاها حتى عن الشعر نفسه الذي هو بوح وتعبير عن كوامن النفس.
وفي نهاية النص الذي بني على الثنائيات الضدية المتصارعة بشكل تلقائي يبين الشاعر الصراع بينه وبين نفسه التواقة للحياة الراقية
على رغم من شيب الرأس وشيخوخة العمر لكن النفس طفلة فهي تحس بالغبن لأنها حرمت واحبطت بحكم زمانها ومكانها وقد قيل إن داخل كل شاعر طفل وداخل كل طفل الف شاعر.
ولم يبرح الشاعر يفلسف الحياة ويعود إلى ثنائية الصدق والكذب
بكل ما تحمله كل كل كلمة منهما من
معاني ورموز وايحاء ويشير إلى الصراع التاريخي بينهما إذ يقول
الكذب والصدق طول الوقت تتصارع
كل بقصده ينفذ حسب قانونه
أنه صراع الحق والباطل والخير والشر والعلم والجهل والتقدم والتخلف . وفجأة يتدخل الشاعر وينهي الاسترسال في الوصف والشكوى ويأمر هاجسه الشعري
أن يتوقف ويقطع البث ثم يلتفت
معتذرا عن ذلك إذ قال:
كفيت قولي كفى يا هاجسي واقطع
يا عز لخوان عفوا لا تلومونه !
فما هذه الخاتمة غير المتوقعة التي تدل على أن للبث بقية تحفظ عنها الشاعر . ألم أقل لكم إنه شاعر محترس وكتوم ؟ ربما بفعل حساسيته المفرطة ، رحمه الله تعالى.
د عبده يحيى الدباني .
Comments are closed.