بيار رابحي.. تحيّة من واحات العالم
حين تواصلتُ مع بيار رابحي، أوّل مرة، في صيف 2018، سرعان ما استحضر – منذ أن عرف بأنني تونسيٌّ – حكاياته مع واحة شْنِنّي (جنوب تونس) ومساهمته بصفته خبيراً زراعياً لإنقاذ هذا “المعلم الطبيعي والبشري”.
أجدُ أنني نسيتُ اليوم معظم ما حدّثني عنه من تفاصيل مقترحاته، فقد كانت موغلة في المعرفة الزراعية التي لا أفقه منها شيئاً، كما تحدّث عن تفاصيل أخرى لفعل شيء ما للواحة عبر أنشطته وزياراته ودعوة جمعيات ومنظّمات ومحاولة توظيف كلّ تلك الشبكة الكبيرة للإيكولوجيا اليوم. أحياناً كان يتذكّر بعض أسماء الأهالي. التقطتُ منه إشارته بأنه انطلق، في أحد كتبه، من “مأساة” هذه الواحة كي يفتح الطريق لتناول كل مآسي البيئة في العالم، لكن كان كَمَن يقول لي: لا تختصرني في كتب تقرؤها. مؤلّفات بيار رابحي الأكثر تعبيراً عنه هي مشاريع كـ شننّي، أنجزها في بوركينا فاسو وأوكرانيا وبنين…
يتحدّث رابحي (1938 ــ 2021) عن شننّي وكأنه موسيقار يستحضر سيمفونية شهيرة كتبها منذ قرابة ثلاثة عقود. جاء رابحي إلى الواحة في 1992؛ أتى بادئ الأمر كعابر، فقد دُعي إلى مؤتمر علميّ في مدينة قريبة، وكانت زيارة شننّي عبارة عن فقرة للترويح عن المشاركين. لكنّ رابحي كان كمَن التقى بـ”أعجوبة مُهملة” (عبارة تقريبية للمعنى الذي التقطتُه وقتها)، إنها مادّة حيّة لتنفيذ أفكار تجول في رأسه عن إنقاذ الطبيعة من براثن الإهمال وسوء التصرّف. انخرط في جهود جمعيّة صغيرة تُعنى بإنقاذ الواحة، وحاول إسماع أنينها في آفاق أبعد من العالم.
يتحدّث عن واحة شننّي التونسية كموسيقار يستحضر أجمل سيمفونياته
وأنا أسمعه، كانت تنبني في ذهني مفارقة: لا أصدّق أن شننّي التي ترد في خطاب رابحي موجودةٌ في تونس. مكانٌ في ذلك الجنوب الشرقي من البلاد قد طاولته بالتأكيد سياسات التهميش المقصود أو ذلك الناتج عن عجز الدولة. أتخيّل شننّي ككلّ قرية محكومة بموقعها الجغرافي البعيد عن العاصمة، وكيف تصلها الخدمات مقطّرة من حنفية البيروقراطية المهترئة. لكنّ شننّي عند بيار رابحي عبارةٌ عن حلم عامر بالنضارة والحياة والأمل.
بيني وبين نفسي، كنت أقول إن “الأعجوبة” غير معروفة كفاية بين جيرانها، وقليلون مَن يعرفون هذا الكنز الملقى فوق الخريطة التونسية. وأقلّ منهم مَن يشعرون بما يحدث لها. تساءلتُ: هل أن المفكّر الإيكولوجي يعتقد بأن أفكاره الإصلاحية مرحّبٌ بها؟ هل دعاه مسؤولون لاقتراح حلول في أماكن أخرى؟ ماذا لو طرحتُ عليه هذه الهواجس، ربما سيفتح ذلك أبواب الحديث عن قضايا إشكالية، لكنّني خشيت أن أجرح الأسطورة التي ركّب رابحي مفرداتها بتجربته الحيّة. وأعتقد، اليوم بأنني حسناً فعلت.
قلتُ في نفسي أيضاً، سأزور واحة شننّي قريباً لأراها كما يتصوّرها بيار رابحي، ولم أفعل ذلك إلى اليوم. ولا أدري حتّى ما مصير محاولاته فيها. لعلّني لا أريد أن أعرف مصير هذه المحاولات، فلو تبنّينا أطروحات رابحي لم يبقَ لنا سوى مثل هذه المحاولات، القائمة على العلم والحكمة معاً. غير ذلك فنحن سائرون بهذا الكوكب إلى الدمار. ألم يكن يردّد، في كلّ ما يقوله، أن التخريب هو الأيديولوجيا التي تحكم العالم منذ قرنين، باسم الثروة والرفاه وإطعام كلّ الأفواه؟
مثل شننّي، هناك واحات حاول رابحي أن يُبطل حكم الإعدام عليها. لقد أطلق من بين ما أطلق “حركة الواحات في كلّ مكان”. كان يرى الواحة بوصفها شكلاً من أشكال مقاومة القَفر، نقطة حياةٍ تُصرّ على ألا تبتلعها عوامل الفناء التي تحيط بها. بعضهم يحبّ أن يعتني بالأسماك في حوض صغير، أو يقدّم المأوى للقطط، وكان بيار رابحي يفعل ذلك مع الواحات.
رحل الرجل الذي أراد أن يتبنّى واحات العالم، قبل أيام. سنأمل ألّا تندثر أحلامه مع غروبه الأخير، ألا تضيع سدى تلك الروابط التي عقدها بين علوم الزراعة والفلسفة والأدب، وبين وعي الكائنات وآلام الأرض. تحرّك في كلّ اتجاه في سبيل ألّا يظل الذكاء البشري آلة ضخمة تعمل على تدمير الطبيعة بلا رحمة، كما تفعل اليوم.
شوقي بن حسن
Comments are closed.