ثرثرة على كورنيش صيرة
د. بدر العرابي
قال عمر بن ابي ربيعة ، الشاعر الوسيم الذي ظل مسيطراً على هواجس النساء الجنسية ، حسب ما تشير إليه مضامين قصائده ، في عصره :
“بينما ينعتنني أبصرنني
دون قيد الميل يعدو بي الأغر .
قالت الكبرى :” اتعرفن الفتى “
قالت الوسطى : ” نعم هذا عمر “
قالت الصغرى ، وقد تيمتها ، : ” قد عرفناه ..وهل يخفى القمر ؟! ” ..”
هذا النص فيه سحر وجمال وكشف لأنماط متعددة من الحالة الشعورية والنفسية والجنسية للنساء ، في علاقتهن مع الرجل ؛ واستبطان وتحليل سيكيولوجي لموقف الأخوات الثلاث ، في ملفوظاتهن الثلاثة ..وفيه كشف لحالة الميول للفتى الجميل الوسيم عمر ، والرجل الذكر عامةً ، عند النساء ؛ فالكبرى في ملفوظها :” اتعرفن الفتى؟!” يصيبها الاندهاش ..اندهاش المرأة وانجذاب للفتى الوسيم ، وهي في عمر من التشبع والتوازن الجنسي ؛ لكن الملفوظ يشير إلى عكس ما يفترض ان تكون عليه ردة فعلها ، بوصفها امرأة مجربة وبلغت من العمر والتوازن النفسي والجنسي ، في موقف كهذا ، ما يفترض أن تكون ردة فعلها ، مستقرة .
ملفوظ الوسطى : “نعم هذا عمر” يشير لاستقرار وتوازن نفسي ذاتي ، ويأس وفشل في تحقيق الوصل مع عمر وتسليم لهذا الفشل ،بينما ملفوظ الصغرى :” قد عرفناه وهل يخفى القمر ؟! يشير إلى فوضى وجرأة واندفاع الفتاة الصغرى السريع ، دون بصيرة ؛ وبما يتوازن ويتطابق مع عمرها وسلوكها المراهق ، وما هي عليه من انجذاب واندفاع متوازن مع رغباتها ووعيها السلوكي , دون إعمال حدود .
لماذا لجأ عمر إلى إحداث هذا الانزياح الواسع ، في ردة الفعل التراتبية الطبيعية لثلاث نساء من اعمار مختلفة ؛ يفترض ان تكون ردة فعل الكبرى ، فيه ، مستقرة ؛ للمطابقة الطبيعية بين استجابتها التي كان يفترض ان تكون مستقرة ومتماهية مع منظومة سلوكها الجنسي الطبيعي الناضج ..بينما جعل ردة فعل الوسطى مستقرة في استجابتها .
عمر اراد ان يقول ان رغبة النساء بي ، تضرب الوضع الطبيعي النسوي النفسي بمقتل ؛ فأنا اجذب المرأة المتشعبة جنسياً والمرأة الأقل تشبعاً والمرأة الفتاة المراهقة منعدمة التشبع والتجربة .
ثم انه يريد ان يقول : إنني ذكر مطلوب ، حين تراني النسوة ، بمختلف اعمارهن ، أحدث اضطراباً في وعي النساء وأضرب تراتبية الانجذاب الطبيعية والحدس والتوازن ، بمقتل .
ومن ثم يريد ان يقول انني في حضوري لديهن ، بوصفي ذكراً وسيماً ، أغطي مساحة الذهن الأنثويةالكلية ، ببعدها العمودي الراسي ( كبرى / وسطى / صغرى ) واغطي مساحة الذهن النسوي ، ببعدها الافقي الشامل ، في المستويات العمرية الثلاثة ؛ بوصف كل عينة من الثلاث النساء الأخوات تمثل كل نساء جيلها وعمرها ، بشكل أفقي ممتد إلى خارج المشهد والموقف الراهن ، ويشمل كل امرأة حاضرة ، في الواقع ، خارج المشهد والموقف الراهن .
اعتقد ان ثمة تطابق بين ما أراد ان يضعه عمر بن ابي ربيعة ، من دلالة ، وما أراد ان يضعه امرئ القيس ، في محاولتهما إثبات ان كل واحد منهما ، لديه سلطة جنسية وواقعية واسعة :
“ألا رب يوم لك منهن صالحاً (يوم الغدير )
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة .
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً .
كدابك من ام الحويرث وقبلها ..
مهفهفة بيضاء غير مفاضة …”
فلدى امرى القيس أيضاً ، هاجس فشله السحيق في استعادة السلطة الفعلية الواقعية ، وكان قد سيطر على قصيدته، و يحاول ، من خلال النص ، ردم فجوة متحركة في ذهنه و بداخله ، وهي حقيقة غياب السلطة والسيادة الواقعية لديه ، لكنه، من خلال القصيدة ، يحاول ان يبحث عن واقع مغاير و توازن نفسي افتراضي ، في تلك القصيدة التي غلبت عليها السلطة اللغوية والموضوعية .
أما عمر فيهرب من السلطة الواقعية ولا يرغب بها ، ويكتفي انه أمير دون سلطة : (قليل على ظهر المطية ظله ..سوى ما نفى عنه الرداء المحبرُ) لذلك اوصل الدلالة بثلاثة ابيات وثلاث ملفوظات ..
بينما امرى القيس ،أطنب في رسم الدلالة الخفية والتي تدفعه من الداخل بإصرار ، والتي تتجسد في يأسه وفشله في استعادة السلطة الفعلية (الحكم ) . ومن ثم ، فإذا كان عمر يرغب في رسم حضوره الواسع في مساحة الذهنية النسوية ثم إبرازه السلطة الجنسية الواسعة على المرأة ، في البعدين الزمنيين ، الرأسي والعمودي ، من جهة ، والبعد الأفقي الواسع_ دون عداها ؛ فامرى القيس إنما يحاول ان يسد مساحة ذهنية دينامية التوسع بداخله ( ضغط الحرمان من السلطة الفعلية ) من خلال : السلطة على الرجال/ الصحبة : ( قفا …..وقوفاً ) والسلطة على المكان ( الوقوف في وضع مسيطر ومحتضن للمكان ومسيطر عليه من زاوية الرؤية العلوية ) ثم السلطة على الطير : (وقد اغتدي والطير في وكناتها ، والتماهي مع سلطة الذئب الذي يسود المكان ، في ظل غياب سلطة الإنسان : فقلت له لما عوى.. كلانا.. والسلطة الجنسية على الأناث ( يوم دارة جلجل ..خدر عنيزة ، وما جرى من تقاذف وتناوب وانفلات ملفوظات الأمر والسلطة بينه وبينها: عقرت بعيري …فانزل …لك الويلات و سلطة الزجر والتوبيخ ) ولما أحس امرى القيس ان عنيزة ، بملفوظاتها الامرية السلطوية ، قد قلبته وسلبت وعطلت نسق السلطة المتواتر ، في ذهنه ؛ عبر تواتر رموز الأمر والزجر اللغوي، في ملفوظاتها الأمرية ، وكذا تغييبها لهاجس السلطة ، عامة لديه : أفاطم مهلاً ( التماس ) لمحكوم من حاكم ..اغرك مني ..مهما تأمري القلب يفعل) _استدرك ولجأ إلى التعويض وردم مظهر تبدل وانتقال وانفراط عقد السلطة لديه : ( فقلت لها : سيري ( أمر ) ( أرخي ) أمر .ولما رأى انه لم يستطع طمر وتغييب سلطتها اللغوية التي امتدت في مساحة زمنية ونصية واسعة _ لجأ للسلطة الموضوعية : ( فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً ….) كدأبك من أم الرباب وام الحويرث وجارتها ….) إذ أستدعى حادثات تسلط واقعية تغطي مساحة زمنية واسعة من حضوره الإنساني ، حتى يستشعر استدامة السلطة واستعادتها في موقف الانفلات الراهن ، قبل التفريط بها ..ثم يمضى في إظهار ملامح سلطته في إيراد موضوعات أخرى من السلطة ، كالسلطة على الليل والمكان ) وكل ماهو مرأي لديه من وجود ) .
أريد ان اقول ، ان النص الشعري الحق ، هو ما كان مدفوعاً من لا وعي الناص ، وفيه مقاربة فاضحة وحقيقية للحالة النفسية والشعورية للناص ، دون ان يدرك الشاعر ، نفسه ، انه يكشف ضعفه ونقصه الحقيقي الذي يدفع القصيدة للتكوين دون إرادته . . وان النص / القصيدة ، إنما تخلقها وتدفع بها ( نفايات عُقدية )كامنة ، برسوخ ، في لا وعي الناص ؛ إذ تنفلت تلك النفايات لتتحد باللغة والمكونات الأخرى ، في اثناء طقس القصيد ، وتعمد إلى هندمة نفسها وتوزيع نفسها في مساحات النص ، وفي الفراغات وبين السطور ، في خضم هطل متصل من تلك الانفلاتات غير الواعية ؛ فالشاعر هنا ليس سوى مردداً ومنشداً لدفق من النصوص ، تقترب في ان تكون هذياناً من بنى إيقاعية وشكلية غنائية غير واعية .
وهنا نخلص إلى ان ثمة مظهرين او نمطين من القصيدة: قصيدة تتشكل دون تدخل وعي الناص ، يكون الشاعر مدفوعاً دفعاً لإنجازها ودفعها للحضور والتكوين ، وفقاً لما ترغب هي ان تكونه ، وثمة قصيدة ونمط آخر ، يكبحها وعي الشاعر ويخضعها للمنطق الموضوعي واللغوي ؛ فيضعها بشكل قالب آلي ، مانعاً إياها ان تكون ما أرادته هي ، لتغدو ما ارادها هو .
Comments are closed.