جيمس غيلفين.. القومية من منظور غير نخبوي
في عام 1998، نشَر أستاذ التاريخ والباحث الأميركي جيمس ل. غيلفين كتابه “الولاءات المتضاربة: القومية والسياسة الجماهيرية في سورية مع أفول شمس الإمبراطورية” الذي درس خلاله موضوع القومية والأمّة في المشرق العربي دون العودة إلى تنظيرات النخب والمثقفين كما يفعل معظم المؤرخين.
عن سلسلة “ترجمان” في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، صدرت حديثاً النسخة العربية من الكتاب بترجمة الباحث السوري عمرو الملّاح، والذي يشرح دور المجموعات غير النخبوية في السياسة القومية في الشطر الأول من القرن العشرين. ويعتمد مصادر غير مستخدمة سابقًا، فيوثق ظهور شكل جديد من التنظيم السياسي – اللجنة الشعبية – التي انتشرت في مدن سورية الكبرى وقراها في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ويقوّم، بما يتعدى السرد، حقبة من تاريخ القومية في الشرق الأوسط العربي. فيقدم، في فحصه المنشورات والكتابات على الجدران والخطب والشائعات والافتتاحيات، رؤى جديدة بشأن البناء الرمزي للمجتمعات الوطنية. ويساهم تحليله الاحتفالات – الوطنية، والتظاهرات، والمسرح – في فهمنا لظهور السياسة الجماهيرية، وفي فهم القومية في المنطقة وخارجها. وينقسم الكتاب ثلاثة أقسام:
يوثق الكتاب ظهور شكل جديد من التنظيم السياسي انتشر في مدن سورية الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى
يتألف القسم الأول من الكتاب من الفصلين الأول والثاني، وقد عاين فيهما المؤلف “تأجيج الشعور الوطني” وتشكيل اللجان، وقد ركز النقاش بشأن القومية على الشروط الأساسية المسبقة اللازمة لانبثاقها. وذلك، على الرغم من أن ضرورة انتشار البنى والعلاقات المرتبطة بـ “الحداثة الكلاسيكية” لا تكفل ظهور النزعة القومية بين السكان. فالنزعات القومية تتطلب قيام حركات قومية، أو المخاطرة بضرب ما هو واضح؛ إذ يستحيل تحقيق القومية من دون قوميين. ولم يكن المسار التطوري الذي اتخذته اللحظة القومية النخبوية في الشرق الأوسط العربي بالفريد من نوعه في المنطقة. وتماثل هذه المرحلة تلك الحقبة التي أنجز فيها الأدباء والباحثون المرتبطون بحركة “النهضة” والحركة “السلفية”، اللتين شهدتهما أواخر القرن التاسع عشر، أعمالهم معزولين عن أغلبية السكان، وغافلين في معظم الأحيان عن الآثار السياسية التي قد تترتب على دراساتهم.
وهكذا، ملأت اللجان الشعبية الفراغ الذي لم يكن في وسع الحكومة العربية ولا المنظمات القومية المرتبطة بها، مثل جمعية العربية الفتاة والنادي العربي، أن تملأه بنيويًا أو عقائديًا. ويمثل بروز اللجان شاهدًا على فعالية السيرورات التي حولت الإمبراطورية العثمانية إبان القرن التاسع عشر. فقد جعلت هذه السيرورات الكثير من السوريين قادرين على “تصور” الجماعة القومية؛ فراحوا يتطلعون إلى اللجان الشعبية من أجل تحقيقها. ولكن “تصور” الجماعة القومية ينطوي على آثار بالنسبة إلى هيكلة علاقات السلطة، وقد وفرت اللجان الشعبية بديلًا من الهياكل التقليدية للسلطة التي ثبت أنها غير ملائمة للظروف التي واجهها العديد من سكان سورية في مطلع القرن العشرين.
وفي هذا السياق، يرى المؤلف أن اللجان الشعبية غالبًا ما أفادت من الشبكات المحلية للرعاة والأتباع، وقوضت أيضًا تلك الشبكات عبر التنظيم خارج النطاق المحلي، وترشيد اتجاهات السلطة السياسية، وتجاهلها من أجل توفير الخدمات لأنصارها. أما المهمات التي كانت منوطة بالأعيان المحليين، فقد أضحت الآن مسؤوليات موزعة عبر مجال سياسي، جرى تحديده على نحو أوسع نطاقًا، وأصبح الأتباع أعضاء في “الأمة”، وبات تقديم الخدمات مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا لا ينفصم بأيديولوجيا تسير على هدي الرموز الشعبية والمفاهيم الشائعة عن الإنصاف.
امتد القسم الثاني على الفصلين الثالث والرابع. وكان مجال بحث المؤلف فيهما منصبًا على دراسة المكون الرمزي للمجالات الخطابية القومية المتنافسة، وكذلك قواها الإدماجية والتوجيهية. فقد ضم المجال القومي، في سورية ما بعد الحقبة العثمانية، جماعة متباينة من الناشطين، والمنظمات، والناخبين الذين عبروا عن نزعاتهم القومية عبر الخطابات التي كانت متباينة على نحو مماثل. فعملت هاتان السيرورتان التوأمان على نحو متفاوت، وأثرتا في مناطق وشرائح اجتماعية مختلفة بصورة غير متزامنة وغير متساوية. ونتيجة لذلك، ففي حين عكست كل الخطابات القومية السيرورات العالمية التي تعمل في الشرق الأوسط، فإن نطاق عملها وأسلوبه كانا متباينين. إضافة إلى ذلك، لما كانت الإمبراطورية العثمانية وحكومة الأمير فيصل العربية كلتاهما تعانيان الضعف، ونظرًا إلى اتساع مدى التحول الاقتصادي والسياسي، فلا يمكن خطابًا قوميًّا مهيمنًا بمفرده أن يكون مقنعًا ولا أن يجبر الآخرين على التسليم له.
ويعقد المؤلف أعقد مقارنة بين اثنتين من الجماعات الخطابية القومية الرئيسة نشأتا في سورية إبان العهد الفيصلي. وقارن بالاستعانة بالمنشورات، والكتابات على الجدران، والمقالات الافتتاحية المنشورة في الصحف، والخطب، والإشاعات وغيرها من النصوص، بين أهم “الرموز الرئيسة” والشعارات ومجالات كلتيهما، من أجل تتبع مراحل تطور هاتين الجماعتين الخطابيتين المتنافستين.
يشكّل الفصلان الخامس والسادس القسمَ الثالث والأخير من الكتاب، وقد تفحص المؤلف فيهما إحدى الوسائل التي كانت تتوسل بها المجموعات القومية المتنافسة لامتحان أفكارها وإثبات صحتها: ونعني الاحتفالات الجماعية. ولا يُعدّ تحليل هذه الاحتفالات أمرًا ضروريًا من أجل فهم الرسائل المختلفة التي تستعين بها الجمعيات السياسية المتنافسة لاجتذاب سكان سورية وتوجيههم فحسب، وإنما أيضًا من أجل فهم السيرورة التي بوساطتها يجري خلق الجمهور السياسي وتعبئته.
وقد بين المؤلف أن هذه الاحتفالات توظف الرموز بطريقتين: فهي لا تحتوي على الرموز فحسب، بل إن الاحتفال ذاته، بمجمله، يعدّ رمزًا. ويمكن قراءة الرموز التي يشتمل عليها أحد الاحتفالات، متمثلة في الأعلام التي يحملها المشاركون في الاحتفال أو الأزياء التي يرتدونها، أو الشعارات التي يجري الهتاف بها في أثناء سير الموكب، والمعلنة في الخطابات، أو المكتوبة على الرايات واللافتات، وما إلى ذلك.
الدوحة
Comments are closed.