المكتب الرئيسي عدن

فصل من رواية النمر الأرقط والكلاب .. للكاتب أديب قاسم

جزيرة البيت المضـيء

كانت عيون الكلاب تتطلع للتأثيرات القادمة من عالم مضيء ساطع متعدد الألوان.. وقبل أن يضع الفجر ملابسه الحالكة هبَّت هذه الكلاب على اختلاف أشكالها إلى لقاء أول شعاع يضيء. ولكن نوافذ الليل ظلت مغلقة في عيني النمر الأرقط حتى سقط أول ضوء من مصابيح الكلاب على شجرته فتفتحت داخل أعماقه الرغبة في معانقة جميع الأشجار التي تعمر وطنه تحت نداء الواجب – واجب الأرض الموعودة بالحياة عندما تشرق الشمس!

كان في نفس النمر المظلمة اندفاع نحو النور لا يمكن إخماده، وما من شيء يضاهيه إلا رغبة الكلاب في النظر إلى الشمس!.. فلربما كانت هذه الشمس تملك من الألوان ما تضيء به الحقيقة، غير حاسة الشم وقد صورت لها أن العالم كله ليس سوى مجموعة من الروائح.. ولا شيء غير هذا عند الكلاب.

وهتف النمر وهو يتثاءب:

” الكلب إذا جاع لا يحلم إلا باللحم… ولا يقاتل إلا ومن ورائه مربٍ يدفعه إلى الحرب!.. إن كان يشغل وظيفة في الشرطة أو في الجيش أو حتى في الحراسة، وغالباً كان يخرج للصيد، فإنه في كل هذا إنما يذهب إلى الحرب. فالكلاب إذن، قد وضعت كل الأشياء في جراب واحد: (..الحرب)!.. لا ترى غير وجه واحد للحياة، فلا تستطيع أن ترسم غير لوحة ليلية… فكيف لبصيرتها أن تشهد ألوان الشمس؟ أو أن تحلم بها حتى؟.. وتظل نوافذها معتمة.. ظلمة بين يديها في عالم أبدي”.

أمسك النمر بهذه الرؤية التي جسدت الحقيقة: (ظلال الشجرة على جدران الكهف.. وحيثما عاشت الكلاب فهي تحمل قبرها).. ولكن النوافذ الأخرى ظلت مغلقة… فهو لا يعرف الكثير عن الكلاب.. غير أنها هي نفسها كانت لا تدرك تماماً إذا ما هُوجم النمر ما الذي سوف يحدث.. فتكون سبب تلك الحماقات إن هي حدثت… فهي حتى الآن لا تدري ما الذي سوف تكتشفه.. إنها معركة حقيقية من أجل البقاء. وهنا يبدأ شكل المعركة الحقيقي.

ويبدو أن قد أزفت ساعة الحرب.. أما وقد أعلن النمر الأرقط أنه لا يريد الحرب، فتلك مسألة أخرى يقدرها العالم… ولا تعرف الكلاب – رغم حاسة شمها القوية ولكن مع عدم بُعد نظرها – ماذا يعني أن التحضر هو أن تملك القوة وترغب في السلام!.. والى أين يمكن أن تقودها هذه الحرب؟!

³      ­      ³

وفي هذه الحرب التي نظمتها الكلاب من طرف واحد، كانت كل الأسلحة تُستخدم من سلاح الإشارة إلى تعقب الفريسة (العدو) بواسطة الشم أو عن طريق النظر، إلى المطاردة أو القنص – وفي كل هذه الأساليب المنظمة بشكل عسكري، كانت الكلاب تستخدم كل أنواع الأسلحة المختلفة الحديثة والمتطورة حسب طبيعة كل الوحدات العسكرية التي عُلِّقت بكل واحدة منها مهمة خاصة:

المتعقبون من كبار شمامي الفريسة:

الدموم

(Blood hound)

الدشهند

(Dachshund)

المرشد

(Pointer)

الباسيت

(Bassett)

البيجل

(Beagle)

إلى جانب عدد من المراقبين الثانويين من قوات التدخل السريع.. وتتألف من:-

السلوقي

(Greyhounds)

الوبت

(Whippets)

وتشارك في هذه العمليات كلاب استرداد الطريدة،

وهي:

المستردة

(Retrievers)

الساطر

(Setters)

السبنيلي

(Spaniels)

كلاب من وحدة جر العربات:

السامودي

(Samoyed)

الهسكي

(Husky)

التشاو

(Chow)

وخلف هذه المجموعات وقفت كلاب الصيد

(الجنود) وتنقسم إلى مجموعتين:

كلاب الصيد

(Hounds)

وهي التي تتعقب الفريسة

كلاب القنص

(Shooting Dogs)

وهي التي تساعد في العثور على الفريسة

منها فرق مشاة تسير على الأقدام، وفرسان تمتطي الخيول.

وأخيراً:

كلاب مستشفى ميدان، ومنها:-

النيوفاوند لاند

(New found land)

(الباحث عن أرض جديدة)

وهي كلاب ضخمة تقوم عادة بعمليات إنقاذ الغرقى والجنود التائهين في الحرب.

وغيرها توجد وحدة تقوم بعمليات إسعاف الحيوانات الجريحة(جرحى الحرب) وهي كلاب صغيرة.

كانت جميع الكلاب تتألف من هذه الوحدات.. ومنها. قام جيش الكلاب. القليل من هذه الكلاب كانت تنحدر من عائلة كانيس Canis الأليفة، وأكثرها من عائلة كانيدي Canidae المتوحشة وما كان لأحد أن ينجو من هذه الكلاب.

كان شعب الكلاب يتألف من عدة مجموعات لغوية.. وعندما نزل في أرض النمر الأرقط كانت لديه القدرة على التكلم بعدة لغات([1]).. فهو قد نشأ في مواطن وأزمان مختلفة. نعم، إنه عرق يتحدر من أكثر من أصل واحد.. وهو هنا جيش متعدد الألوان([2]).. ومزخرف بألوان متعددة من لون البشرة إلى الزي غير الموحد , ومن هنا كانت الكلاب قد أطلقت على هذه الحرب التي تستعد لها “رحلة صيد بالألوان” وقد شملت جميع ألوان الكلاب!

علق أحد الكلاب (تراه كان هذا “أفتشاركا Oqtaoka الروسي” ذو اللونين الأبيض والأسود، على هذا التعدد في الألوان، واستدل منه على أنه شعب مجمَّع من شعوب مختلفة.. فرد عليه “الوايمري Weimaraner” وهو كلب ألماني مقدام جريء اعتاد الظهور بمعطفه الرمادي الفضي… وكان يستخدم عقله إلى حد كبير إذ هو من قادة الكلاب، فقال:

” Die Haare konnen blond, braun, Schwarz oder rot seine . Am  Ende werden sie alle weiss([3]).

وعندها تذكر “أخوتنتشيا oxotHuze ” ذو اللون الأسود البني وهو روسي أغنية قديمة.. وراح يغني:

“كانت حياتي أسود أبيض

حتى دخلت في حياتي “رونكا”

فغدت ملونة..

قبلت شفتيها الوردتين

ولمست خدها الأحمر

وعقب عليه “Samoyed الأبيض([4])“:

كانت حياتي مظلمة

فدخلت فيها “رولي”

فأصبحت خضراء!..

وتحدث الجميع بلغات مختلفة… ولكن السؤال: هل كانت الكلاب ترى الألوان أم أنها تسرق الشِّعر من غيرها؟… والحقيقة أنك – ومثلما يحدث في هذه الحرب – قد ترى تقلب وجهها عندما تبصر الشيء، وقد يرى البعض في هذا الموقف أن الكلب قد زاغ بصره أمام تعدد الألوان التي يراها… والحقيقة أنه لا يرى ألواناً بل الأشكال ليميز فيها إن كان هذا الشخص معرفة!

زحفت الآن إلى ساحة المعركة أفواج جديدة من الكلاب لم تكن موجودة هنا من قبل.. ظهر ذلك من خلال آلاف الأضواء المنبعثة من نجومها تعكسها الكشافات المعلقة فوق جباهها.. في وسطها كانت كلاب القناصة Shooting dogs وفي مقدمتها أرتال من كلاب الوبت Whippet تشبه الدبابات.

وتقدمت من خلال الصفوف ثلاثة كلاب يحمل أحدها لافتة كتب عليها (جيش منطقة المراحل) وهذه عبارة تعني “منطقة تجمع فيها القوات العسكرية الاحتياطية وتعد للقتال”. كانت قد أنجزت عملها في ميدان آخر وأقبلت لتقاتل في صف جنود الجنرال البلدغ (شارو) الكلب. وتقدم (صائد الذئاب Wolfhound) وهو كلب أيرلندي (مسئوول عسكري قائد) وخلفه وقف الدينجوDingo المتوحش وإلى جانبه السلوقي الأفغانيGrey hound (الذي يواجه الدببة والنمور دون أن يعتريه الخوف)، وكان الثلاثة يحملون أسماءهم فوق بطاقاتهم المعدنية، فخاطبهم الجنرال بول دوغ (شارو) الكلب بصفته القائد الأعلى لقوات الكلاب: “بريجيدير وولفهاوند، ميجر جري هاوند، ليفتنانت دينجو، هيا نظموا صفوفكم واستعدوا للحرب!”

سأله Wolfhound صائد الذئاب:

– أنت تقترح حرباً شاملة ؟

– لديه 30 فهداً والقليل من النمور ولدينا جيش.

اقترح السلوقي Greyhound على “شارو” الكلب:

“من غير المجدي ياسيدي أن ننتظر حتى تشرق الشمس.. في الظلام سنرى بياضة (لمعان جسده) أفضل من وضح النهار”..

– “ليكن ذلك، أظنك أصبت”

قال (شارو) الكلب.

وشرع بإصدار أوامره!:

(العيون المبصرة Seeing eyes)

* كلاب الإشارة Pointers – أنتم ترصدون الطرق.

* كلاب القنص بالنظر – أنتم ستذهبون للبحث عن الأرقط.

* أما أنت، كلاب القنص بالشم – فإن عليك أن تخرجي الآخرين من مخابئهم وليكن منكم صيادون مترجلون وآخرون من سلاح الفرسان على ظهور الخيل.

اقترب كلبان من الجنرال بول دوغ “شارو” الكلب، أحدهما كان الساطر ذو المعطف النحاسي سأله:

– تريد أن نفتح كل الأبواب ؟

– ولكن أن تتوقفوا عند الأبواب.

وسأله البوينتر:

– تريد أن نفتح كل الطرق ؟

– لكن نظل واقفين على الطرق … لا نمضي ولا نعود إلى الخلف.

عندئذ هتف السيرجنت كولى:

“All present and correct, Sir”([5])

فرد القائد العسكري كولونيل وولف هاوند (الكلب الذئبي الأيرلندي) موجهاً نظراته إلى الكلاب التي وقفت في حالة استعداد:

“Good, then we’ll move off without delay, sergeant collie”([6])

وأعقب ذلك بالتفاتة صوب الجنرال بول دوغ قائلاً:

“المجموعة جاهزة للانطلاق سيدي الجنرال”

وعِطف ذلك التفت إلى الكلاب، وقال:

“سيبدأ الهجوم على قرى النمور بعد عبور النهر الكبير. وأما الذين يعسكرون في المنعزلات فعلينا أن نتغاضى عنهم تماماً… على الجميع استخدام نظارات الرؤية الليلية إن كان مجال الرؤية: صفر!.. وعلى القناصة استخدام جهاز التحكم البُعدي. وتذكروا جيداً: إن مواجهتنا مع النمر الأرقط، وما قد يلقى من مدد لن تكون نزهة، فلا ندري ما الذي يخبئه لنا.. علينا أن نحسب حساب المفاجآت… ونستطيع الآن القول” إن الأرض تقاتل مع أهلها” تذكروا هذا جيداً تجدون أنه صحيح!.. ذلك أن النمر قد أوغل في الغابات وخبر كل شبر فيها. وضعوا هذا في آذانكم: lt is war to the knife([7])..

وقذف الجنرال البلدغ “شارو” الكلب بآخر توجيهاته للكولونيل وولف هاوند:

“أنتم تواجهون أيها الكولونيل مجموعة من نمور العصابات”

فرد الكولونيل:

(سوف نقضي عليهم أيها الجنرال).

­        ­        ­

تعجب النمر الأرقط من أمر هذه الكلاب بكافة أنواعها وجنسها.. وأين كانت قد أقامت معسكراتها وهل أصبح لديها منازل؟.. والليل لا يكشف سره لأحد حتى تبزغ الشمس. ومن خلال حجب الظلام الكثيف كان يرى بوضوح خلف خطوط الأعشاب.. وكان يرى من وقت لآخر ظلالاً ضخمة في نهاية الطريق المؤدية إلى غابة الشوك… وراح يفكر ما سر غموض هذا الليل؟

وكان الخوف الذي أحس به النمر ليس كالخوف الذي يجيء ويروح.. إنه خوف من نوع آخر، إنه بداية النهاية.

وبعيداً عن الحكم الآلي ربما الأحمق القائل إن (الكلب هو الكلب) وهو أمر حقيقي! ولكن ليست جميع الكلاب ذات أهداف متزمتة شريرة عندما تسمع كلمة “كلب!” تتردد حيث اعتاد العالم استعمالها كثيراً! كان علينا(مثلما على النمر الأرقط) أن نأخذ شهادة عين على الأحداث.. شهادة من داخل الحرب، إذ إن كل مجموعة من الكلاب تتألف من نماذج مختلفة ومعقدة ليس من السهل فيها تمييز العدو لمجرد أن جرواً يساق إلى الصيد بوصفه “مجنداً”… وإن كان هذا هو الغالب على الكلاب.. فقد نجد بين الكلاب من يرى هذه الحرب حرباً غير عادلة… وهذا ما كان يشاهد على هذه الكلاب من عويل أو ارتباك بوصفها ضحية. وربما كان النمر أول من صادف هذه الحقيقة الضخمة التي تجري على سطح الحروب!.

وإنما قد برز موقف هذه الكلاب ضمن مجموعة أخذت تثير الاهتمام بما يعزز من كرامة الحيوان الذي عانى طويلاً من الكراهية.

وكانت بعض الكلاب، بدء إعلان الحرب، قد مدت سيقانها الأمامية وأسندت إليها رؤوسها، وأمامها أمسكت بلوحة كتب عليها (No Partitions): لا للحواجز. وأخرى (Sit – in) وهي عبارة تعني: احتلال المقاعد للاعتصام ضد تطبيق التمييز العنصري!.. وراحت تعوي بهدوء:

“عو .. عو .. عو”

كانت هذه الكلاب قد جثمت حيث بدت السحب من خلفها بين الأشجار وهي تمر في الأفق ومن تحتها يلوح منظر بيوت شعب النمر.. وقد شملت الكلاب مجموعة الإيطالي السلوقي ltalian Grey hound group ومجموعة سبيتز الفلندي Finnish Spitz group ومجموعة البوميراني البولندي Pomeranian group ومجموعة الكلب الدلماسي Dalmatian([8]). وقد جعلت تدندن بنوع من النشيد دون أن تعبأ بالمطر الذي كان يقطر من الشجر.

وظهر كلب أفريقي اشتهر بعدم النباح.. ويدعى “بازنجي Basenji”(*)، إنه لا ينبح ولكنه كان يغني بنوع من الهمهمة، وسلم النمر الأرقط يداً بيد فانوساً علِّق على الشجرة، وخاطبه: “أشعله كي يراك العالم”.. وأصبحت الشجرة منذ هذا الوقت تدعى:

(جزيرة البيت المضيء).

وابتسم “البازنجي” الذي كان قد اعتزل العيش مع الكلاب، فابتسم النمر الأرقط.. وهو يتألم.. ابتسم وهو يحترق.. ويفترق عن هذا العالم، ويقدر ما فيه من الصعوبات والعداوات. كانت ابتسامة حب وأمل لجميع الحيوانات. فكان عليه أن يتحرك بعنف من أجل هذه الابتسامة وحدها!… غير أنه كان يدخل في حزنه لحظة.. ويغيب .. كان يحمل شعبه في عينيه ويمضي كالقمر الشاحب.

وفي هذا الوقت كانت بعض الكلاب تجر الكلبية dog cart وهي عربة يجلس عليها بعض قادة الكلاب الماضين إلى الحرب. أوقف (الهسكي husky كلب الإسكيمو الأبيض المنحدر من جرينلاند) العربة وبصق في حنق:

“يا أولاد الكلب!”

حيث كانت وحدة من كلاب الصيد يتقدمها البلدغ (شارو) الكلب، تمر به ممتطية خيولاً تنهب الأرض مسرعة، فمرت على مستنقع وأثارت الوحل فأصاب رذاذ منه بل لطخة طينية عريضة وجه الهسكي!.. واكتفى بالسب.. فليس أبشع من أن تصف أحداً بالكلب، وهي لغة تستخدمها جميع الحيوانات فتكون مشحونة بالكراهية التي يضيق بها صدرها.. وما كان ليغضب منها غير الشيطان وقد أدرك أنه واحد من هذه الكلاب.

أضاف الهسكي ولا يزال يشعر بالغضب: Why Spurting dirt over me?([9])” دعوا أرض الكلاب الكبيرة العظيمة تأكل عظامكم حتى الموت في هذه الحرب.. فحق يقوم وحق يموت.. أيّ عدل؟ .. أن تنهض “زرائب الدواب المتحدة” على قبوركم، وليترشح الدب الأسود لجولة جديدة من الحروب؟ حرب وقودها الكلاب!”

وإذ مرَّ بالجنرال البلدغ (شارو) الكلب الذي شاخ في الحروب، وكان يعتمر قبعته الكبيرة ويمسك في فمه بغليون يتصاعد منه الدخان.. صاح الهسكى بصوت سمعه الجميع:

“الشيخوخة ياسيدي جثَّة!.. لا تتحد بهم في القبر، لأنك خربت أرض غيرك وقتلت شعبك!”

وتضاحك (شارو) الكلب، وناداه:

“تعال أيها الجندي، من أنت حتى تتكلم؟”

اقترب منه الهسكي وهتف:

“إننا نمسك بالشجرة، بينما ثمارها في حلقك.. أتدري؟ لقد شرعت الكلاب الصغيرة تطلق عليها “جزيرة البيت المضيء” لفرط ما تصرف عليها من أنوار الكشافات.. وهي في النهاية نقود أطفالنا الذين لانجد ما نطعمهم… أما أنت فلديك ما يكفي العالم!”

غضبٌ تفجر كالبركان في عروق البلدغ (شارو) الكلب.. ورشقه بهذه العبارة:

([10])(Shut up, you dog).. “لعن الله جنسك”!

وقذف غليونه في وجهه، وكان مطعماً بالذهب. ركع سائق العربة وتناوله.. وضعه في فمه ونشق الدخان بقوة.. وهتف بصوت مسموع:

“علَّمونا الدخان، ونسوا أن يضعوا نقوداً في جيوبنا.. نسوا أننا نحتاج لأن ننفخ الحرب”!

وانتفخت الكلاب بالضحك.

­       ­     ­

وفي الوقت العصيب كان شعب النمر قد اندفع إلى حمل السلاح دفاعاً عن النفس بطريقة عفوية عندما اقترب عدوه حيث لم يجد فرصة كافية لتنظيم صفوفه وفقاً للقواعد العسكرية المقررة، وكانت أسلحته بدائية. وعلى هذا الأساس كان النمر الأرقط قد عزم على أن يستخدم أسلوب (الحملات) غير العسكرية السريعة.. وغالباً كان النمر لا يملك سوى بندقية النفخ (فكان يستخدم زئيره).. وسمع الأعداء الذين كانوا يتجمعون بأعداد كبيرة كل جماعة لها قائد، وكل قوة تتألف ما بين 30 إلى 40 كلباً، سمعهم النمر يذكرون خطة (حصار) يحكمونها حول القرى النمرية. وعندئذ أدرك أن ليس أمامه إلا أن يهاجم الكلاب بطريقة الحرب الخاطفة يضرب ويختفي.

لمعت عينا النمر المتقدتان بل المضيئتان بوجهه المنقش الثلاثي الشُّعب أمام هذه الخطة حيث بدت له خطة لامعة!.. وحيث تظهر نقط الجلد متناغمة مع الأوراق والزهر للتمويه، لإعطاء عتاده الحربي مظهراً خادعاً يضلل به العدو. وقبل أن يشتبك النمر الأرقط مع الكلاب في معارك جانبية كثيرة، كان قد أعد خطته ليقود في هذه الحرب فريقاً من النمور الجسورة المرقطة التي سارت خلف ما كان يرسم لها من خطط لقتل عدد من الكلاب بغير حساب!

كانت خطة النمر “ديموجرافية” وهي سحق أكبر عدد من الكلاب.. وإعاقة خطواتهم المتجهة نحو معسكرات ومنازل النمور حيث تقيم العائلات غير المشاركة في الحرب… أو لاستدراجهم نحو الحفائر والخنادق والمستنقعات!

وبينما كان النمر الأرقط يخطط لمواجهة هذه الحرب وحوله تلك النمور فوق شجرة زيتون كثيفة ملتفة لا ينفذ إليها الريح ولا المطر ولا الشمس، غير بعيدة عن معسكر الكلاب… في هذه الأثناء كانت الكلاب المهاجمة من نوع سكاي تِريَر Sky Terrier المعروفة باسكتلندا، وغيرها من الأصناف الأخرى وهي تِريَر كيرْنCairn Terrier، تريرَ الويلزي Welsh Terrier، َترَير بوسطن Boston Terrier التَّريرَ الإيرلندي lrish Terrier، تَرير مانشسترManchester Terrier.. الويبت، البيجل وصائد الأيائل Staghound، وصائد الثعالب الإنجليزي English Foxhound، ومعها عدد من كلاب الماستيف (الدرواس) Mastiff يقودها الجنرال البلدغ “شارو” الكلب، كانت هذه القوة من الكلاب وهي تضع الخوذات على رؤوسها وتتمنطق بأحزمة جلدية وقد تسلحت حتى الأسنان… تقف على أهبة الاستعداد للحرب، فتقدمت جوقة من الكلاب وأطلقت النشيد الذئبي البدائي الرتيب… بدأت بالقذف الطبلي وذلك بإطلاق نباحها كنيران المدفعية بشكل متواصل بحيث تحدث صوتاً كقرع الطبول.

وفوق ربوة عالية عوى ذئب:

“إنني أحب هذه الموسيقى القديمة!.. تجعلني أدرك مشاعر الكلاب – وتدفع الدم إلى عيني”!

أعقب ذلك عاصفة من بركان الغضب من فوق السَّهب المنبسط حيث فتحت النمور النيران، ففجَّرت سعار الكلاب الوحشي الذي انهمر كشلال معدني.. وكان هذا يحدث عندما كانت الكلاب ترعش الصفائح المعدنية (Dog Tags) المدلاة من أعناقها في الأطواق وهي تتعانق!

كان هذا جانباً من التمويه العسكري للكلاب، فيما قوة أخرى كانت تتسلل عبر الأراضي المحيطة بالمنازل الواقعة فوق الهضاب، وكان يقودها كلب الهضاب الغربية القناص ليفتنانت ساطر Setter بفرائه ولونه النحاسي الأسمر.. وراحت تتجول في ظلال الأضواء الليلية المنبعثة من البيوت.

وكان كلب السلوقي Saluki الصحراوي المنحدر من مدينة الكلاب الشهيرة – أعرق مدن الكلاب (ساينو بوليس Cynopolis) والملقب Jackal الذي أصبح يرمز لشخص يقوم بعمل حقير لمصلحة شخص آخر.. كان هذا دليل الكلاب… وحيث انتُدب من قبل الكلب “بوش” الأمريكي الابن the American Bush Dog junior  لأداء هذه المهمة لقاء حماية حظيرته بمنع الكلاب من التعدي على حدودها زائد رشوة لقاء الصمت([11]).

وفي إطار هذه الحملة قدم الكلب السلوقي الصحراوي خدمة كبيرة للكلاب! إذ اقتادهم إلى عرائش الرمل وعبر بهم البحر، حتى انتهى بهم إلى أماكن تجميع القوة وهي أنفاق تؤدي إلى تل النمر.. وسائر القرى!.. وعبرها استطاعت هذه القوة العسكرية أن تتسلل إلى إحدى القرى.

كانت هذه الكلاب على اختلاف أجناسها وألوانها ونبرها تؤلف جنساً متنافراً تنافراً شديداً.. أحدها وضع على رأسه خوذة وكان عارياً حتى الحزام.. وكان آخر قد وضع على أنفه عوينات.. في الوسط كلب ذو وجه شاحب وعينين عصبيتين أمسك في فمه “قنبلة”.. والأخير ذو قامة عملاقة كان يتدفق في مشيه، ويلهث لما كان يسحب خلفه عربة مفخخة booby trap car… وبدت الكلاب تحت برق شديد التوهج كأنما ضُربت على وجوهها بالسياط وقد أوشكت السماء أن تمطر عندما قال أحدها وهو يضع عوينات على أنفه:

– سوف تمطر !

فعقب عليه كلب كان يضع الخوذة على رأسه:

إننا نحتاج لهذا المطر لنتَّخذ منه غطاءً. زحفت هذه الكلاب وأغارت على المنازل.. وكانت تضرب اللبؤة أو النمر على الكتف!.. وتغرس الأنياب في ساقيه من الخلف حتى تشل قدميه.. ولا تشفق على الجراء فتسلط على وجوهها سهام العمى من مصابيحها المبهرة، ولا ترحم ثمرة البطن فتفتك بالأمهات الوالدات… وتحت الأضواء الأمامية لأحد البيوت قذف الكلب الشاحب العصي قنبلته… وتنفس قائلاً:

“لن أُبقيَ الكلمات معلقة طويلاً بين السماء والأرض.. خذي!”

كان قد قذف “القنبلة” وسط نمور نيام.. واحتدم نباح الكلاب يخالطه زئير مرعب.. ثم تكشف الدوي عن صراخ فهد (جنين) يرن في الخارج.. وسُمع صراخ لبؤة كانت في شهر حملها الأخير وأوشكت أن تلد.. أن تضع حملها لتقدم إلى الحياة بعض أزهارها.. كانت تتلوى وتنظر إلى قرص القمر، الذي انفرجت عنه السحب، بفراغ عيني… وقد تناثر بطنها – والبطن مجموعة من الجراء تأتي دفعة واحدة!.. جميع تلك الجراء دخلت في عداد الموتى عدا جرو واحد.. جعل يصرخ ويكاد يفطس من شدة بكائه وربما كان قد أصيب.. وقد نسيته الكلاب، ولم تنهش لحمه الطري الهش.. فبقي في العراء يسفعه الهواء المتوحش في قلب هذا الليل العاري. وجه (الوالدة) وحده كان التعيس.. لقد كانت وحيدة دون رفيق منذ غاب عنها النمر الأرقط!…. وفي السماء تألق كل شيء..

¯          ¯           ¯

أشرق القمر في السماء، عندما أوشك النمر الأرقط أن يدلف إلى دغل كثيف متشابك .. وتنبه إلى صوت بجواره خلف الأعشاب فرأى كلباً يقف على قيد ثلاث خطوات في ظل شجرة من أشجار (الأقاصيا) ولونه يشبه جذع الشجرة التي يقف تحتها.. أدرك أنه كلب من كلاب هذا التراب.. وليس دخيلاً على هذه الحياة… وكان جرواً صغيراً انسدل شعر رأسه على جبهته.. وبدا وجهه قد صبغته الشمس.. هتف له النمر الأرقط بعد أن كان قد شرع يهرُّ وإذ وجده يرتعد:

“لا تخش مني أيها الصغير!.. قد كنا في سالف الأزمان نعاشركم حق العشرة… ولا نزال لولا أن اختلطت علينا وجوه هذه الكلاب. هيا، امض في طريقك، لا تخشَ شيئاً فلم نسمع أن النمر قد اصطاد كلباً لمجرد أنه كلب!”

همس الكلب الصغير:

“رأيت الكلاب تنهش في لحم جرائك… بل لعلها أمهم.. زوجك”

فكر النمر برهة، ثم قال:

– هل أنت متيقن أيها الصغير؟

– ومن يستطيع أن يعرف أكثر مني؟ قد كانت فهودك من بعض أصدقائي.. وكنا نلعب.

وكان يتكلم وعيناه تترقرقان ببريق الدمع.. ونظرات النمر الحانية تغمره.

ورأى النمر الأرقط بعض دلائل الصدق مرتسمة على الوجه الصغير.

قال النمر وعلى وجهه تلك الابتسامة الجادة الرقيقة:

“هل حدثك أحد بذلك أيها الصغير؟.. ولربما تعني الانفجار الهائل الذي سمعناه..؟”

ومرت لحظات صامته، قال بعدها الجرو الصغير:

“حقيقةً، كان البازنجي Basenji([12]) هو الذي حمل إليَّ الخبر – خبر الحادث، ومثلما حدثني قال: كانت كلاب مستشفى الميدان تحمل الكلاب الجرحى لئلا يقعوا فريسة للنمر وعشيرته…”

قال النمر الأرقط ولا يزال يتشكك رغم أنه قد تملكه شعور بالقلق:

“لا أظنه قد تحدث إليك بكل ما سردته عليَّ الآن.. فهو لا يكاد يفتح فمه.. إذ نادراً ما تخرج منه كلمة!”

– ولكنه إذا تحدث بالإنجليزية انطلق فيها.. وفلت عياره.

– ربما… فالكثيرون يتحدثون بلغات مختلفة!.. ربما كانوا أسعد حالاً وهم يتحدثون بتلك اللغات.

وسارع باتجاه البيت إذ ربما كان أحد جرائه لا يزال على قيد الحياة.. وفي الطريق، وقبل أن يبدأ بنهب الأرض ظهر بجواره كلب أبيض ضارب إلى الحمرة Rufos – and – white  .. قال:

“إن بيتي في طريقك وأريد أن أتمشى معك”.

وسارا معاً بعضهما إلى جوار بعض إلى أن وصلا إلى جدول الماء أسفل الهضبة.. ثم استدار الكلب بسرعة لمواجهة النمر الأرقط والتقت عيناه في عينيه وقد أوشك أن يهاجمه… وقال للنمر:

“كنت عند مجرى الماء هذا.. وقد شهدت كل شيء!”

ثم انقلب على عقبيه.. وفي لهجة عنيفة بعد أن خلف النمر وراء ظهره صاح:

“You live a precariously life and … I had seen your baby exposed.”(*)

وارتسمت على وجهه ابتسامة تشفُّ عن حقد ثم أخذ يقهقه مِلءَ شدقيه، وأعطى الريح ساقيه …. فإذا بتعابير النمر قد تجهمت وكان بوسعك أن ترى أنه كان يتميز غيظاً لا من جراء هذا الكلب، وإنما من جراء حياته كلها وهي تتسرب من بين يديه وقد فقد أسرته!.. وهاهو ذا يقضب الأغصان برعب وحنق شديد، ويضرب الأرض بقضيب يده… ويتوقف من وقت لآخر ويقول كلمة:

“من شاء أن يشهد، فليعتنق جذع الشجرة ليصل إلى فرعها الممتد في السماء.. حيث يكون السلَّم الذي تصعد عليه الملائكة – ملائكة الرحمن إلى السماء الزرقاء، إلى الفردوس الأعلى… حيثما يوجد ربيع دائم، وفاكهةٌ وخضرة أبدية”.

واستدار ليلقي نظرة أخيرة على:

“جزيرة البيت المضيء”

وأخيراً ظهر النمر الأرقط فوق الهضبة.. وعلى ظهره كان يحمل ابنه.. وليقول كلمة وداع لزوجته” قطته الصغيرة اللطيفة” أطلق زئيراً عالياً في الجو… وكان يضرب جلده بذيله يحاول أن يؤذي نفسه من الخارج لكي يزول الألم من الداخل.. فيما امتلأت عيناه بالدموع.. ثم راح يتلو صلاة قصيرة من خلال شفتيه الممتلئتين بالشعر:

“ادخرت لك الفضاء

لتملئيه أغنية من سواكِ

ها أنا…! أنتحبُ

وأعطيتكِ قلباً وقلتُ

لا تملئيه بما لا أحب

فادَّخرت لي فيه…

           قمراً”

وظل يبكي لنصف الليل.

وكانت الكلاب قد أحاطت به من كل جانب بعد أن عاد إلى البيت.. وظلت طوال الوقت تنبح القمر بما يشبه النشيج كأنها ذئاب.. غير أن الجنرال البلدغ (شارو) الكلب الذي ظهر بينها في هذه الساعة قال للكلاب:

“دعوه يبكِ قليلاً على الأموات”

­         ­        ­


Comments are closed.