محمود ممداني مفتتحاً ندوة “الاستعمار الاستيطاني والأصلانية”: فلسطين واستقصاء النموذج الجنوب أفريقي
قال الأكاديمي الأوغندي محمود ممداني (1946)، أستاذ “كرسي هربرت ليمان للحكم” في “جامعة كولومبيا”، إنّ “حلّ الدولتين في نماذج استعمارية عديدة يخلق كيانين: دولة ذات سيادة، ومحمية”، مشيراً بشأن “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” BDS إلى أنه “يمكنها المساهمة في عزلة الاحتلال على الصعيد الدولي، لكن هناك حاجة إلى القيام بالمزيد من أجل أن يزدهر البديل غير الصهيوني في إسرائيل نفسها”.
جاء ذلك في محاضرته التي افتتحت ندوة “الاستعمار الاستيطاني والأصلانية والصراع الفلسطيني ضد الصهيونية”، أمس السبت، وتنظّمها كل من دورية “عمران” للعلوم الاجتماعية الصادرة عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، و”معهد الدوحة للدراسات العليا”، و”كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بالمعهد”.
وحملت محاضرة ممداني عنوان “فلسطين/ إسرائيل من منظور ما بعد الفصل العنصري: الدولة – الأمة وحداثة ما بعد الاستعمار”، وفيها ركّز على “العلاقة بين الدولة- الأمة”، و”الحداثة ما بعد الاستعمارية”، و”العنف المتطرّف”.
وبيّن المحاضر أن الحاجة الآن، كما كانت الحال في جنوب أفريقيا، هي إلى ثورة معرفية تفتح الطريق أمام ثورة سياسية، مضيفاً أنّ “اللحظة الفارقة الفلسطينية تأتي عندما تقود الدينامية نفسها التي أدّت فيها وحدة المضطهَدين إلى عزل المضطهِدين، ذلك عندما لا يكون المضطهَدون وحدهم من يسعون للتغيير السياسي، بل أيضاً كثير من المؤّيدين الحاليّين للنظام الصهيوني”.
وفي رأيه، فإنّ الوصول إلى هذه المرحلة يستدعي نوعاً جديداً من الوعي السياسي داخل “إسرائيل”، يقوم على الاعتراف بأنّ مسألة ازدهار اليهود والحياة اليهودية لا يتطلّبان دولة صهيونية.
أمّا فحوى الدرس الجنوب أفريقي عنده، والعبرة التي يجب إيصالها إلى الإسرائيليين بأكبر قدر ممكن، فهي أنّ “اليهود لا يحتاجون إلى دولة يهودية ليكون لهم مقام آمن في فلسطين/ إسرائيل”.
استحضار تجربة ومقارنتها بأُخرى هي لمزيد من التنوير لا المطابقة بالحرف
وحسب ممداني، فإن الدرس الذي يجب أن تتعلّمه “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” هو أنها في حاجة إلى البناء على المكاسب التي حقّقها “التجمّع الوطني الديمقراطي” (بلد)، لا أن تعتبر أنها بديل له. سيكون إنجاز ذلك بمنزلة توفير إطار سياسي لليهود الإسرائيليين المعادين للصهيونية، وحتى لغير الصهيونيين منهم”. والأفكار، كما يتنبى ممداني، ليست هي ما يصنع العالم، بل تلك التي تتبلور إلى مؤسسات وحركات اجتماعية.
ويراجع المحاضر المفهوم المركزي في حداثة الغرب؛ ومفاده أنّ الثقافة هي السياسة والعكس صحيح، مشيراً إلى أن هذا المفهوم “مركزي لدى المستعمِرين، على الأقل منذ منتصف القرن التاسع عشر”. وعليه يسأل: “لماذا علينا أن نفترق عن ذلك المفهوم، للبحث عن بدائل إمّا دولة واحدة أو دولتين؟”. هنا يدعو إلى “عدم الخلط بين بين الثقافة والسياسة، فالأولى تنتمي إلى الشتات وهي عابرة لحدود الدولة”.
ومن أفريقيا استحضر ممداني نموذجَي الجزائر وجنوب أفريقيا، “حيث هُزم الاستعمار فيهما هزيمة نكراء، مع فارق بين التجربتين، حيث غادر المستعمرون في جلّهم الجزائر عقب الاستقلال، ولكن العكس حصل في جنوب أفريقيا”. وفي هذه الأخيرة يجد ما يعنيه، وما يعتقد أن الفلسطينيّين يمكنهم تعلّم شيء منه، مستدركاً: “أنا غير مهتم بالتسويق لهذا النموذج، فأنا لست مندوب مبيعات. لكنّني مهتم باستكشافه وتحليله لنصل إلى تجربة أفضل”.
كيف يمكننا أن نشير إلى الهنود: هل هم هنود أم سكان أصليون في أميركا؟
لا يُنكر ممداني أنّ التجارب التاريخية لها خصوصياتها، غير أنه يضيف بأنّ “استحضار تجربة ومقارنتها بأُخرى هي لمزيد من التنوير لا المطابقة بالحرف”. يستبق الحديث عن جنوب أفريقيا التي يجد تشابهاً كبيراً بينها وبين فلسطين، بما قال إنه المثل الأعلى للإسرائيليين، وهو الولايات المتحدة الأميركية، كما أنه نموذج للعنصريّين في جنوب أفريقيا. فقد تأسّست أميركا على قمع مجموعتين كبيرتين هما الهنود الحمر والعبيد الأفارقة.
ونقل لنا السؤال الذي تداوله الأميركيون المسيطرون: “كيف يمكننا أن نشير إلى الهنود هل هم هنود؟ أم سكان أصليون في تلك الأرض؟”، واستدرك بالقول: “المتحف الذي خُصّص للحضارة ما قبل كولومبوس في واشنطن يُسمّى ‘المتحف الوطني لأميركا الهندية’، ولا يُسمى المتحف الوطني لأميركا الأصلية”.
ويتساءل هنا لماذا؟ ثم يجيب: “لكي تكون أصيلاً يتعيّن الاعتراف بالهنود أعضاء مؤسّسين للولايات المتّحدة الأميركية، ولكنهم ليسوا كذلك. فالدستور الأميركي يعتبرهم خارج نطاق الولايات المتحدة وحكومتها، وأكثر من ذلك وضعهم في خانة الأعداء”.
ونتج عن ذلك، حسب رأيه، “أمّة مستقلة محلّية شأنها شأن الذين يعيشون في الضفّة الغربية، وهذا ليس إلّا قناعاً للاستعمار. وكانت السلطات التي تعيش في هذه المحميات تحت سيطرة ما يُسمى ‘مكتب الشؤون الهندية’، وهو لا يختلف عن البيروقراطية الكولونيالية، التي كانت تسيطر في أي بلد أفريقي على نحو غير مباشر. هذا هو حل الدولتين الذي يختصره بدولة ذات سيادة مع محمية ليست ذات سيادة بالمطلق.
مقابل ذلك، “كان العبيد الأفارقة يعملون في أراض يملكها البيض، بينما أراضي الهنود سُلبت منهم، والأفارقة مفصولون عنصرياً ومحكومون في آلاف وآلاف من المجمّعات الصناعية والزراعية”.
ما فعلته الولايات المتحدة مع السكّان الأصليين يفعله الاحتلال مع الفلسطينيّين
وأضاف في هذا السياق: “عاش العبيد تحت الدولة الواحدة، ما وفرّ سياقاً سياسياً لبناء التحالفات التي أفضت الى كفاح للتخلّي عن العبودية. والأفارقة يشكّلون 15%، وهم على ذلك أقلّية، لكنهم أصبحوا قوّة لا يُستهان بها بعد الحرب الأهلية، وحركة الحقوق المدنية، وحقبة إعادة البناء وتعزيز حقوقهم أخيراً من خلال حركة حياة السود مهمة”.
وفي كلمة، في هذا السياق، يقول إنّ حل الدولتين “فرض محمية هندية وموطناً متشظياً سياسياً، بينما حلّ الدولة الواحدة قدّم إمكانية التحالفات والتغيير”. هذا هو النموذج المستلهم مثلما يراه: “ما فعلته أميركا مع السكّان الأصليين تفعله إسرائيل التي لا تسعى لتغيير الفلسطينيّين ولا تريد استعبادهم، بل أن تحل محلّهم وتُفكّك واقعهم السياسي”.
ومضى قائلاً: “في جنوب أفريقيا حصل المستوطنون على الاستقلال عام 1910، وأرسلوا وفداً إلى أميركا الشمالية لدرس النموذج الأميركي ونظروا إلى محميات الهنود الحمر لكي يفحصوا مدى السيطرة على الأفارقة”.
النسخة التي طُبّقت على الأرض في جنوب أفريقيا يقول إنها ذاتها نسخة من اتفاقات أوسلو في فلسطين، حيث جاءت كلّ اتفاقية بـ”بانتوستان”، وهذا يشبه السلطة الوطنية الفلسطينية للحفاظ على الأمن الداخلي، وحصلت “البانتوستانات” على دعم السلطات البيضاء الحاكمة.
ويحاجج ممداني بأنّ التغيير الكبير في جنوب أفريقيا رشّح في السبعينيات، إذ حقّقت مقاومة التمييز العنصري إنجازات عظمى، لافتاً إلى أنّ السود لم يذهبوا إلى خيار الدولة القومية الذي يزعم أنّ جنوب أفريقيا ذات أغلبية من السود بينما الهنود والملوّنون والبيض أقلّيات، حتى يمكن للسود أن يعلو كعبهم، بل جرى التفكير على نحو مغاير مفاده أن جنوب أفريقيا لا تقوم على العرق.
محمد هديب
Comments are closed.