مدن غير مرئية… رُخامٌ أخضر تنقله القوافل (8)
تنشر “العربي الجديد”، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد لكتاب “مدن غير مرئية” لإيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد، قبل رحيله المفاجئ في أيلول/ سبتمبر الماضي.
من حاجز شرفة القصر العالي يراقب الخان الأكبر إمبراطوريته تنمو. أوّلاً، توسّعَ خطُّ الحدود ليحتضن الأراضي المغزوّة، ولكنّ تقدُّم الفرق العسكرية واجه مناطقَ شبه مهجورة، قرىً بأكواخ حقيرة، مستنقعات رفضَ الرزّ أن يشطأ فيها، أناساً مهزولين، أنهاراً جافة، قصباً. وفكّر الخان: “إمبراطوريتي نمَتْ أبعد ممّا ينبغي باتّجاه الخارج، وحان الوقت لتنمو في نطاق ذاتها”، وحلم ببساتين رمّان، بالفواكه تبلغ من النضج حدّ أن تمزّق قشورها، بالدربانيات* مسفوعةً على السفود تقطر دِهناً، بعروق معدِن تظهر على وجه الانزلاقات الأرضية بكتل متلألئة.
والآن ها هي كثيرٌ من فصول الوفرة ملأت مخازن القمح. وحملت الأنهارُ الطافحة غاباتٍ من الروافد الخشبية لتدعيم سقوف المعابد والقصور البرونزية. ونقلت قوافلُ العبيد جبالاً من الرُّخام الأخضر المرقّط عبر القارّة. ويتأمّل الخان الأكبر إمبراطورية مغطّاةً بالمدن التي تثقل على الأرض والجنس البشري، مكتظّة بالتجارة والثروة، مثقلة بالزينات والشعائر، معقّدة بالآليات والتراتبات الطبقيّة، منتفخة، متوتّرة، ثقيلة جدّاً.
ويفكر قبلاي: “الإمبراطورية مسحوقة بثقلها ذاته”، وتظهر في أحلامه الآن مدنٌ خفيفة مثل طيّارات ورقية، مدن مثقّبة مثل شرائط مخرّمة، مدن شفّافة مثل الناموسيات، مدن مثل عروق أوراق الشجر، مدن مسطورة مثل راحة يد، مدن مزركشة تُشاهَد عبر كثافتها الخيالية المعتمة.
يعيدون بناء إرسليا في مكان آخر ثم يهجرونها إلى أرض أبعد
يقول لماركو: “سأقصّ عليك ماحلمتُ به ليلة البارحة: في وسط أرض صفراء منبسطة، منقّطة بجلاميد نيازك وصخور غريبة، رأيت من مسافة بعيدة أبراجَ مدينة ترتفع، قمماً نحيلة، مصنوعة بطريقة يستطيع معها القمر خلال رحلته أن يستريح مرّة على واحدة منها ومرّة على أخرى، أو يتأرجح متدلّياً من حبال الروافع”.
يقول بولو: “مدينة حلمك هي لاليج. لقد نظم سكّانها هذه الدعوات للاستراحة في سماء الليل حتّى يضمن القمرُ لكلّ شيء في المدينة القدرةَ على النموّ، والنموّ بلا نهاية”.
فيضيف الخان: “هنالك شيءٌ لا تعرفه؛ لقد ضمن القمر الممتنّ لمدينة لاليج أكثر الامتيازات ندرةً: أن تنمو بخفّة”.
■ ■ ■
مدن خِفاف (5)
إذا اخترتَ أن تصدّقني، فهذا أمرٌ طيّب. والآن سأقصّ عليك كيف صُنعت أوكتافيا، مدينة شبكة العنكبوت. هنالك شفا هاوية بين جبلين سفحاهما شديدا الانحدار: فوق الفراغ تقوم المدينة، مربوطةً من كلتَيْ القمّتين بالحبال والسلاسل وبممرّات ضيّقة. أنت هناك تسير فوق عوارض الربط الخشبية الصغيرة، محاذراً أن تضع قدمك في الفراغات المفتوحة، أو تتمسّك بحبال القنّب المجدولة. لا شيء في الأسفل لمئات ومئات الأقدام: بضع غيوم تنسلّ عابرة؛ وإلى مدىً أبعد في الأسفل يمكنك أن تلمح قاع الهوّة.
ظِلٌ مثقّبٌ يسقط على أوراق النبات في النهارات المشمسة
هذا هو الأساس الذي تقوم عليه المدينة: شبكة تُستخدم كممرّ ودعامة. وكلّ ما تبقّى معلّقٌ تحتها بدل أن ينهض إلى الأعلى: سلالم من حبال، أراجيح شبكيّة، بيوت مثل أكياس، حمّالات ثياب، مصاطب مثل جندولات، قرَب ماء جلدية، أنابيب غاز، سفافيد، سلال على أسلاك، أطباق بكماء، مرشّات استحمام، أراجيح بهلوانات، وحلقات لألعاب الاطفال، حبال مركبات، شمعدانات، قدور نباتات متسلّقة.
إن حياة سكّان أوكتافيا، المعلّقة فوق الهاوية، أقلّ انعدام يقينٍ ممّا هي عليه الحياة في مدن أخرى. إنهم لا يعرفون سوى أن الشبكة ستدوم زمناً طويلاً.
■ ■ ■
مدن متاجِرة (4)
في إرسليا، لإنشاء العلاقات التي تُبقي على حياة المدينة، يمدّ السكّانُ خيوطاً من زوايا البيوت، بيضاء أو سوداء أو رمادية أو سوداء ـ بيضاء، بناءً على ما إذا كانوا يُشيرون إلى علاقة قرابة بالدم أو تجارة أو نفوذ أو وكالة. حين تتكاثر الخيوط إلى درجةِ أنْ لا يعود بامكانك المرور بينها، يرحل السكّان: تُفكّك البيوت؛ لا تبقى سوى الخيوط وركائزها.
وينظر لاجئو إرسليا من جانب جبل، وقد خيّموا مع حاجيّاتهم المنزلية، إلى متاهة الخيوط المشدودة والأعمدة المرتفعة في السهل. تلك هي مدينة إرسليا، ساكنة، وهم لا شيء.
إنهم يعيدون بناء إرسليا في مكان آخر. ينسجون نمطاً مماثلاً من الخيوط يودّون أن يكون أكثر تعقيداً، وفي الوقت نفسه أكثر تناسقاً من الآخر. ثم يهجرونه ويأخذون أنفسهم وبيوتهم، وأيضاً إلى مكان أبعد.
لهذا، حين تكون مسافراً في أراضي “رسليا، تُصادف خرائب المدن المهجورة، من دون الجدران التي لا تدوم، من دون عظام الموتى التي تُدحرجها الريح بعيداً: مجرّد شِباك عناكب لعلاقات معقّدة باحثة عن شكل.
■ ■ ■
مدن وعيون (3)
بعد مسيرة سبعة أيام عبر أرض غابيّة، لا يستطيع المسافر المتّجه نحو بوسس رؤية المدينة، ومع ذلك يصل إليها. ما يدعم المدينة هي الركائز النحيلة التي تبرز من الأرض متباعدة بعضها عن بعض تباعداً كبيراً، وضائعة فوق الغيوم. إنك تتسلقّها بسلالم. على الأرض من النادر أن يظهر السكّان أنفسهم: إنّهم ــ ولديهم سلفاً كلّ ما يحتاجون إليه هناك في الأعالي ــ لا يفضّلون الهبوط. لا شيء من المدينة يلمس التراب ماعدا أرجل طائر البشروس الطويلة تلك التي تستريح عليها، وظِلٌ مثقّبٌ ذو زوايا يسقط على أوراق النبات حين تكون النهارات مشمسة.
هناك ثلاثة افتراضات حول سكّان بوسس: أنهم يكرهون الأرض؛ أنهم يحترمونها جداً الى درجة أنهم يتجنّبون كلّ اتّصال؛ أو أنهم يحبّونها كما كانت قبل أن يوجَدوا، وبالمناظير المقرّبة المصوّبة نحو الأسفل هم لا يملّون أبداً من فحصها، ورقةَ شجر فورقةَ شجر، صخرة فصخرة، نملة فنملة، متأمّلين غيابهم، مفتونين.
■ ■ ■
مدن وأسماء (2)
يحمي مدينة ليندرا نوعان من الآلهة. كلاهما أكثر ضآلة من أن يُرى، وأكبر عدداً من أن يُحصى. يقف أحد النوعين لدى أبواب البيوت، من الداخل، بجوار مشجب المعطف وحامل المظلّة؛ عند الانتقال يلحق بالعائلات ويضع نفسه في البيت الجديد عند مستودع المفاتيح. النوع الآخر يظلّ في المطبخ، مفضّلاً الاختباء تحت القدور أو في زغب المدخنة او خزانة المكانس: إنه ينتمي الى البيت، وحينما تغادر العائلة التي تعيش هناك، يظلّ مع المستأجرين الجدد. ربّما كان هناك سلفاً قبل أن يكون للبيت وجود، بين أعشاب قطعة الأرض الخالية، مختفياً في صفيحة صدئة؛ إذا هُدم البيت، وبُني في مكانه مجمعٌ ضخم لخمسين عائلة، سيُعثَر عليه، متضاعفَ العدد، في مطابخ تلك الشقق العديدة. للتمييز بين النوعين، سندعو الأوّل باسم آلهة البيت، والآخر باسم الآلهة الحارسة.
بين جدران أي بيت من البيوت، لا يظلّ أفراد الآلهة الحارسة مع بعضهم البعض بالضرورة، ولا أفراد آلهة البيت مع أفراد نوعهم. يزور بعضهم بعضاً، يتمشّون معاً فوق الأفاريز الجصّية المزخرفة، فوق أنابيب شبكات التدفئة؛ يعلّقون على الأحداث العائلية، ويندر ألّا يتشاجروا؛ ولكنّهم يستطيعون لسنوات العيش معاً بسلام. ولدى رؤيتهم جميعاً في صفّ، لن تستطيع التمييز بينهم. لقد رأت الآلهةُ الحارسة آلهةَ البيت، البالغة التنوّع أصولاً وعاداتٍ، تمرّ عبر جدرانها، لأن على آلهة البيت إيجاد مكان لها، محتكّةً مِرفقاً لمرفق بآلهة القصور الشهيرة ولكنِ البالية، ممتلئة بالغطرسة، أو محتكّةً بآلهة حارسة من أكواخ القصدير، حسّاسة ومرتابة.
جوهر ليندرا الحقيقي موضوع مناظرة لا تنتهي. تؤمن آلهةُ البيت أنها روح المدينة حتى لو أنها وصلت في السنة الماضية؛ وتؤمن أنها تأخذ ليندرا معها حين تهاجر. الآلهةُ الحارسة تعتبر آلهةَ البيت ضيفاً مؤقتاً، مزعجاً ومتطفّلاً؛ تعتبر أن ليندرا الحقيقية ملكها، وهي ما يعطي شكلاً لكلّ ما تحتويه الليندرا التي كانت هنا قبل وصول كلّ هؤلاء الأدعياء، والتي ستبقى حين يرحل الجميع.
كلا النوعين من الآلهة يشترك في هذا: إنهما ينتقدان دائماً ما يحدث في العائلة وفي المدينة مهما كان. تُقدّم آلهة البيت العجائز، أجداد الأجداد، العمّات، الجدّات، عائلة الماضي؛ بينما تتحدّث الآلهة الحارسة عن البيئة قبل أن يحلّ بها الخراب. ولكن هذا لا يعني أنهما لا تعيشان إلّا على الذكريات: إنهما تحلمان أحلام يقظةٍ بالمهَن التي سيتّخذها الأطفال حين يكبرون (آلهة البيت)، أو ما قد يصبح عليه هذا البيت في هذا الجوار (الآلهة الحارسة) لو أنه كان في أيد أمينة. لو أصغيتَ باهتمام، في الليل بخاصة، تستطيع أن تسمعهما في بيوت ليندرا، تتهامسان باستمرار، تقاطع إحداهما الأخرى، تتغاضبان، تتمازحان، وسط ضحكات ساخرة مكتومة.
■ ■ ■
مدن وموتى (1)
في ميلانيا، في أيّ وقت تدخل الساحة تجدُ نفسك عالقاً وسط حوار: يلتقي الجنديُّ المتبجّحُ والطفيليُّ، قادمَين من بابٍ، بالشابِّ المتبطّل والعاهرة، أو بدلاً من ذلك، ينطق الأب البخيل على عتبة داره بتحذيراته الأخيرة للابنة العاشقة، وتُقاطعه الخادمُ الحمقاءُ التي تأخذ رسالة قصيرة إلى القوّادة.
تعود إلى ميلانيا بعد سنوات، فتجد الحوار نفسه ما زال دائراً؛ في غضون ذلك يكون الطفيليّ قد مات، وكذلك القوّادة والأب البخيل، ولكنْ حَلّ محلّهم الجندي المتبجح والابنة العاشقة والخادم الحمقاء، وهؤلاء من جانبهم أيضاً أخذ مكانَهم المنافقُ والصديقة الحميمة والمنجّم.
سكّان ميلانيا يجدّدون أنفسهم؛ يموت المشاركون في الحوار واحداً فواحداً، وفي غضون ذلك يولد أولئك الذين سيأخذون أماكنهم، بعضهم في دَور، وبعضٌ في دور آخر. حين يغيّر أحدهم دوراً، أو يهجر الساحة إلى الأبد، أو يقوم بأوّل دخول له فيها، تحدث سلسلة من التغيّرات، إلى أن يُعاد إسناد كلّ الأدوار؛ ولكنْ خلال ذلك يواصل العجوز الغاضب الردّ على المربّية الظريفة، ولا يتوقّف المرابي أبداً عن ملاحقة الشابّ المحروم من الميراث، ولا المربّية عن مواساة ابنة الزوج، حتى وإنْ لم يحتفظ أحدٌ منهم بالصوت نفسه والعينين نفسيهما اللتين كانتا له في المشهد السابق.
أحياناً، ربما يحدث أن شخصاً لوحده سيتّخذ دورين متزامنين أو أكثر (طاغية، محسن، رسول)، أو قد يتضاعف دور واحد، يتعدّد، يُسنَد إلى مئة، إلى ألفٍ من سكّان ميلانيا: ثلاثة آلاف للمنافق، ثلاثون األفاً للطفيلي، مئة ألف لأبناء ملكٍ تدنّت منزلتهم وينتظرون التعرُّف عليهم.
وبمرور الزمن لا تعود الأدوار أيضاً هي نفسها كما كانت من قبل؛ من المؤكّد أنّ الفعل الذي واصلوا أداءه، عبر مكائد ومفاجآت، يقود إلى نوعٍ من الحلّ الأخير للعقدة، ذلك الذي يواصل الاقتراب حتى حين يبدو أن الحبكة تتكثّف أكثر فأكثر وتتزايد العقبات. إذا نظرتَ في الساحة على فترات متعاقبة، تسمع كيف أن الحوار يتغيّر من مشهدٍ إلى مشهد، حتى لو كانت حياة سكّان ميلانيا أقصر من أن تسمح لهم بإدراكه.
- الدربانيات: حيوانات من فصيلة الأبقار ذات سنام فوق غاربها.
Comments are closed.