إنزو ترافيرسو.. الثورات من منظور واسع
لم يعد اسم المؤرّخ الإيطالي، إنزو ترافيرسو، مجهولاً في عديد من بقاع العالم؛ لا في الولايات المتّحدة الأميركية حيث يدرّس في “جامعة كورنيل” وحيث تصدر كتبه بالإنكليزية بموازاة صدورها بالإيطالية، ولا في اللغة العربية التي نُقل إليها واحدٌ من أعماله قبل عامين: “نهاية الحداثة اليهودية” (“صفحات للنشر والتوزيع”).
الأمر ذاته ينطبق على فرنسا التي عاش ترافيرسو ودرّس فيها لنحو ربع قرن، وحظيت فيها أعمالُه باستقبال واسع، منذ صدور كتابه الأوّل فيها، “الماركسيون والمسألة اليهودية” (1990)، وصولاً إلى عمله الصادر قبل عامين، “مواضٍ متفرّدة: الأنا في الكتابة التاريخية” (2020)؛ في حين صدر له، بين هذين العنوانين، أكثر من عشرة أعمال بلغة موليير، من أبرزها “العنف النازي: جينيالوجيا أوروبية” (2002)، و”التاريخ بوصفه ساحة معركة” (2010)، و”ميلانخوليا اليسار” (2016).
عن منشورات “لا ديكوفرت” في باريس، صدرت حديثاً النسخة الفرنسية من كتاب ترافيرسو “الثورة: تاريخٌ ثقافي”، الذي صدر العام الماضي بالإيطالية والإنكليزية، وهو عملٌ يستكمل فيه أبحاثه في التاريخ وتاريخ الأفكار السياسية، مُحاولاً توسيع النظرة – الضيّقة في أغلب الأحيان – إلى الثورة، ليس على مستوى المفهوم فحسب، بل وكذلك في النماذج التي يتناولها، ويذهب فيها أبعد من النماذج الفرنسية والروسية، التي تستحوذ على جزء كبير من الأبحاث في تاريخ الثورات.
كلّ ثورة تُشبه زلزالاً يقلب الأنظمة ويفتح على آفاق وأفكار ومعايير جديدة
يفتتح صاحب “الماضي: دليل عمليّ” كتابه بمقدّمة طويلة (نحو 30 صفحة) حول إشكالية تفسير الثورات، وهي إشكالية تسمح له بطرح الأفكار المحورية في كتابه منذ البداية: أنه يستحيل تقديم تفسير أو سردية واحدة، خطّية، للثورات؛ فكلّ ثورة، كما يقول، تُشبه زلزالاً يقلب الأنظمة القائمة سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، ويفتح على آفاق وأفكار ومعايير جديدة.
إضافة إلى المقدّمة والخاتمة، يتوزّع الكتاب على ستّة فصول؛ هي: “محرّكات التاريخ” الذي يدرس فيه تنظيرات ماركس حول الثورة، و”أجساد ثائرة” الذي يقدّم فيه قراءة توازي بين الأعمال الفنية التي تسجّل التغيرات الثقافية في روسيا وبين ثورة 1917 فيها. وفي الفصل الثالث، “مفاهيم، رموز وأماكن ذاكرة”، يدرس النحو الذي تحضر به الثورات في العديد من الأعمال الكتابية، كما عند المفكّر الألماني فالتر بينيامين، وكذلك في التشكيل، كما هو الحال في أعمال الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا.
أمّا الفصل الرابع، “المثقّف الثوري: 1848 – 1945″، فيعود فيه إلى العديد من الأمثلة حول النحو الذي عاش ورأى من خلاله عددٌ من الكتّاب والروائيين والمفكّرين إلى الثورات، في فرنسا وألمانيا وروسيا وغيرها. وفي حين يناقش الفصل الخامس، المعنون “بين الحرّية والتحرير”، أفكار كلّ من فرانز فانون وحنا أرندت وميشيل فوكو حول هذين المفهومين، فإن الفصل السادس والأخير، “الحرباء الشيوعية”، يُخَصَّص لتتبّع مسار الأفكار الثورية الشيوعية خلال ثلاث موجات، وعلى مساحة تمتدّ من الأميركيّتين (ثورات سواحل الأطلسي وأميركا اللاتينية) إلى آسيا (الثورة الثقافة) وأوروبا (الكومونة).
ولإعطاء صورة عن النحو الذي يقترح فيه إنزو ترافيرسو تحليلاً ثقافياً، يمكن إعطاء الفصل الأوّل مثالاً، حيث يحلّل عبارة ماركس الشهيرة، “الثورات محرّك التاريخ”، والتي يحاجج بأنها ليست عبارةً بلاغية، بل وصفٌ موجَز يعرف المؤرّخون مدى دقّته، من ناحية، وهي أيضاً عبارةٌ تكشف، من ناحية أُخرى، عن البُعد الثقافي في توصيف ماركس للثورة، حيث يأتي كلامه عن “محرّك التاريخ” في فترة صعود المحرّكات الحرارية في أوروبا، ومدّ خطوط حديدية في بريطانيا، وتأثير الآلات الصناعية الجديدة في طباعة العمل، وهي تفاصيل اقتصادية وعِلمية وثقافية فرضت نفسها كعوامل تقود إلى الثورة التي يأتي تحليل ماركس كمرآةٍ لها.
باريس
Comments are closed.