الكاتب وخيبة أمله
وصل البريد الإلكتروني الذي ينتظره إمره بعد شهرين، وأثناء قراءته لرسالة محرر دار النشر، شعر أنه اقترب من تحقيق هدفه، لكنه سقط فجأة في الهاوية. فقد كتب له جُملاً مهذبة يهنِّئه فيها على روايته المختلفة والتجريبية، ولكن للأسف يصعب نشرها وفقاً لخطّهم التحريري.
كان هذا هو قرار إعدام الرواية، وقرار ظالم هكذا كان ينبغي أن يُقال بهذا التهذيب. الرواية جيدة، لكنها لا تناسبهم. قال إمره لنفسه: “هل يخدعون طفلاً؟ لقد نشروا كتباً سخيفة من قبل، مثل كتاب “انذُر نفسكَ لله”.. ألا توجد قيمة لروايتي مقارنة بمثل هذه الكتب؟”.
كان إمره يعرف أن مثل هذه الكتب تُقرأ كثيراً، وتحصد الكثير من الإعجابات على فيسبوك. كلما كانت الجملة سيئة أعجبت الناس على مواقع التواصل الاجتماعي. مثلاً، تكتب إحداهنّ: “يَنسى العقل من يرحل، ولكن هل ينساه القلب؟”، فتجد التعليقات الكثيرة بـ”لا يَنسى.. لا يَنسى”، وبعض التعليقات يظن أصحابها أنهم أكثر ذكاء فيكتبون: “اتركي من يترككِ، وابحثي عن الذي يليق بكِ”.
جُنّ إمره عندما تذكّر أن الأدب في بلده وصل إلى هذه المرحلة. فكَّر أن يفتح صفحة على فيسبوك باسم مستعار، لكتابة مثل هذه الأشياء السخيفة التي تعجب الناس، ربما يربح بعض النقود، لكنه تراجع عن ذلك، لأنه مهما كتب بشكل سيئ، فلن يكتب مثل هؤلاء. فالكتب التي قرأها سوف تؤثّر في النهاية على كتابته. ومهما تعذَّب إمره، كان عليه أن يقبل بالأوضاع الحالية كما هي، لأنه وُلد في زمن فساد المجتمع.
فكّر في أن يصبَّ بعض الزئبق الساخن في أُذنَي الناقد
الشيء الذي أزعج إمره هو التقرير الذي أرسله له المحرر بالخطأ. حيث أرسل رواية إمره وروايات أخرى لأحد النقاد ثم أرسل بالخطأ تقرير الناقد اللاذع عن الرواية. أصبح هذا التقرير أحد أبرز أسباب عوامل هدم أحلام إمره. كان الناقد قد كتب:
“عزيزي نجاد…
الروايات التي أرسلتها لي في الأيام السابقة سيئة وضعيفة، لكن بينها رواية وقحة وصاحبها يثق في نفسه أكثر من اللازم. هذا الطفل الذي يُدعى إمره كاراجا، لم ير أي شيء في الحياة بعد، وقد غاص في الأدب العالمي. عيسى، باراباس، كافكا، ماذا حدث لهؤلاء الكُتّاب الشباب. لماذا لا يبحثون عن موضوعاتهم الخاصة في الحياة التي يحاربونها؟ لا تؤاخذني، هذا الولد لن يكتب شيئاً بأفكاره هذه، ولن يصبح كاتباً أو ما شابه. إذا أرسل لك كتاباً مرّة أُخرى، فرجاء لا ترسله لي لأنه أزعجني كثيراً. وقراري واضح”.
تحت هذه الأسطر كان يُكتب اسم الناقد، حَذَاقات حِصَارلي جيل، وملاحظة: “لا يوجد تغيير في موعد يوم السبت، أليس كذلك؟”. وكان يفهم من هذه الجملة أن الناقد والمحرر صديقان مقرّبان ويلتقيان خارج العمل أيضاً. انزعج إمره كثيراً مما حدث، وبحث على الإنترنت وهو يقضم أظافره التي أوشكت على الانتهاء، فوجد أن الناقد في الخامسة والخمسين من عمره، وكان معلّماً للأدب في مدرسة مجهولة. كان شَعره قد تساقط، وله وجه رقيق بلا شارب، ونظّارة. عرف إمره أن الناقد متزوج ولديه طفل، وربما يلتقي هو والمحرر بشكل عائلي. كان شكل الناقد لا يوحي أن لديه طفلا.
خرج إمره وتمشَّى في الشوارع لساعات دون أن يدري إلى أين يذهب، مشى جانب الطريق بين السيارات وهو يتخبط في الناس. أخيراً ذهب إلى طريق الساحل، على اليسار سور بيزنطي، وعلى اليمين بحر مرمرة والسفن الراسية فيه تبدو كاللوحة. لم يهتم إمره بهذا المنظر لأنه كان منشغلاً بالاستعداد للانتقام. أول ما سيفعله أنه سيكتب رسالة بلهجة حادة إلى الناقد والمحرر، وستصبح هذه الرسالة عن دور النشر والمحررين والنقاد مدخل إمره إلى تاريخ الأدب. ثم سيذهب ليعرف مكان عمل الناقد، وعنوان بيته، وأماكن تحركاته، وسيجهّز عقاباً ذكيّاً للناقد بما يليق بخيال روائي.
■ ■ ■
كتب إمره رداً للمحرر بعد ثلاثة أيام. كان عنوان البريد الإلكتروني: “إلى المحرر والناقد”. انتظر ثلاثة أيام لكي يهدأ قليلاً حتى لا تمتلئ رسالته بالشتائم وهو لا يريد ذلك. أراد أن يُثبت لهما أنهما يخطئان في ما يفعلان، وأن التاريخ شهد الكثير من أمثالهما، لكنهم لم يستطيعوا حجب الأدب الحقيقي. بدأ رسالته بشرح قصة الكاتب سعيد فائق، الذي سأله القاضي عن عمله فقال له كاتب، فقال القاضي لكاتبة المحكمة: “اكتبي يا بنتي، إنه بلا عمل ويدور في الفراغ”.
تحدّث بعد ذلك عن الكتب التي تحقّق نسب مبيعات عالية حول العالم، والسينما، والموسيقى، كما رفض اتهام الناقد له بتقليد الكتاب الغربيين. ألا يوجد أكثر من كاتب أميركي أو أوروبي كتب عن أفريقيا أو الهند أو اليابان، فلماذا لا يكتب كاتب تركي عنهم؟
استمر إمره في رسالته كالآتي:
“عزيزيَّ المحرر والناقد.
كنت أتمنى أن نناقش هذه الموضوعات معاً وجهاً لوجه، ولكن أتصور أنكما لن تقبلا، ولذلك أود أن أسأل سؤالاً، وأنتظر ردّكما على الأقل على هذا السؤال: “ما هي النقطة المشتركة بين هؤلاء الكُتّاب: مارسيل بروست، جيمس جويس، مارك توين، جورج برنارد شو، فرجينيا وولف، إدغار آلان بو، بنجامين فرانكلين، أبتون سنكلير، والت ويتمان، ألكسندر دوما… وبدون إطالة أنا سأجيبكما. الرابط المشترك بين هؤلاء الكتاب أن دور النشر قد رفضت نشر أعمالهم، واضطروا أن ينشروا أعمالهم بأنفسهم، حتى إن “عوليس” و”البحث عن الزمن المفقود” قد رُفضتا بنفس الشكل. إننا نحكي عن العالم الذي رفض جاك لندن ستمئة مرة. أليس لديكما الفضول لمعرفة المحررين والنقاد الذين رفضوا نشر كبار الكُتّاب، وما هو قدر هؤلاء في الوسط الأدبي، لأنهم أخذوا قرارات كهذه؟ لو أن هؤلاء الكُتّاب لم ينشروا لأنفسهم، كم كنا سنُحرم من أهم الأعمال، ومن يدري كم من الكتب التي أُلقيت في القمامة وكانت بأهمية كتاب “الحرب والسلام” و”دون كيشوت”؟ إن الروايات الكبيرة التي هي ميراث الإنسانية، هي الكتب المحظوظة التي نجت من إرهاب النقاد والمحرّرين”.
تابع إمره رسالته بهذا الشكل. كان لديه شك في قراءتهما لها بشكل كامل مثلما حدث مع روايته، وأن حل هذا الأمر أن يتحدث مع الناقد وجهاً لوجه، ويجعله يعتذر عما فعل. ولن يتم هذا الأمر بشكل طبيعي، فلن يسمعه الناقد ولن يقبل خطأه. كان يجب توفر ظروف أخرى لكي يتلقَّى الناقد عقابه.
لم يكتب إمره رسالة ثانية إلى الناقد، لأنه لا يعرف ماذا عليه أن يفعل في الخطة الثانية. لا يريد أن يشكَّ الناقد في شيء. كان يستمتع بالتخطيط لقتل الناقد كل مساء، وفي نفس الوقت، يفكر: “كم شخصاً مثلي يخطط الآن لقتل أحدهم يا ترى؟”. ولو كان كل من خطط للقتل قد قتل بالفعل لتضاعف عدد القتلى في العالم مائة مرة. خطرت على باله خطة جيدة لتنفيذ جريمته بأن يصبَّ الزئبق الساخن في أذنيه، هكذا ستكون جريمة نظيفة وظريفة في نفس الوقت، ليس فيها مسدس وسكاكين ودماء، فقط قليل من الزئبق الساخن في أذنيه.
كان يرى نفسه سيفاً لكلّ الكتّاب الذين تحطّمت قلوبهم
فكَّر أن هذه الخطة صعبة من ناحيتين، إيجاد الزئبق وكيفية اقترابه من الناقد للدرجة التي تمكنه من وضع الزئبق في أذنيه. وبعد أن فكر قليلاً تذكر أن العثور على الزئبق ليس مستحيلاً، فهناك زئبق في الترمومترات القديمة، ولديه بعض منها. هذا يعني أن العائق الأول قد زال، يبقى العائق الثاني، وهو الاقتراب من الناقد. كان عليه أن يعرف عنوان بيت الناقد أولاً.
أخذ موتوسيكل ابن عمه وذهب إلى المدرسة التي يعمل فيها الناقد. انتظر حتى موعد انتهاء اليوم الدراسي، أكل بعض الكعك، وبدأ ينظر إلى المعلمين الذين خرجوا بعد الطلاب بوقت كثير. لم يكن الناقد بينهم، فانتظر عشر دقائق أُخرى، وعندما أوشك على الذهاب رأى الناقد. كان الرجل النحيل يرتدي قبعة ومعطفاً خفيفاً، وفي يده شنطة قديمة، ومن ثقلها كانت كتفه اليمنى منحنية قليلاً. وكان يرتدي حذاءً قديماً، ويتقدم نحو إمره. مرّ بالقرب منه ثم اتجه نحو محطة الباص. في انتظاره أخرج كتاباً من جيبه وبدأ في القراءة، ثم صعد إلى الباص الأزرق المزدحم، وتعقبه إمره بالموتوسيكل.
عبرا من طرق مزدحمة ثم نزل الناقد في المحطة الخامسة. مشى مائة متر ثم دخل إحدى الحارات، ومنها إلى بناية تشير إلى أنه من متوسطي الحال. ركن إمره الموتوسيكل أمام حديقة ودخل وراء الناقد ثم قرأ اسم حصارلي جيل على زرِّ جرس البناية في المنزل رقم 8. كان مدخل البناية قديماً ومظلماً، والحوائط بلا دهان، وكانت رائحة الكُرُنب تفوح من البناية. كان المنزل رقم 8 في الطابق الثالث يطل على البناية من الخلف. أحذية كثيرة أمام أبواب المنازل الأُخرى، ولم يكن أمام باب منزل الناقد غير ممسحة الأرجل. لاحظ إمره أن باب منزل الناقد ليس فيه عين سحرية، لأنه قديم للغاية وأوشك على السقوط. كان يرغب في لقاء الناقد أولاً، ويثبت له أنه على حق، قبل أن يدخل بيته هكذا في صمت، ولذلك كان عليه أن يجد خطة أُخرى. يجب أن يجد وقتاً تكون فيه زوجة الناقد وابنه خارج البيت. ولكن كيف سيرتب هذا؟ لم يكن هناك أماكن أُخرى تأتي إلى عقله. إذا رأى الناقد وتحدث معه، فهل من الممكن أن يشرح له ما يريد؟ حتى موضوع صبِّ الزئبق الساخن في أذنيه لم يكن مناسباً أن يفعله أمام الناس.
فكر إمره أولاً في شراء قطع من الغاتو ووضع السم فيها وإرسالها إلى بيت الناقد، وكانت ستكون طريقة بسيطة لموته، ولكن عائلته هي المشكلة، لأنه لم يكن يريد أن يُجري مذبحة كاملة لكل العائلة. تخيَّل شكل ابن الناقد وهو يأكل الغاتو بسعادة بجوار أمه البريئة. ولكن إذا فعل هذا فلن يتحدث إلى الناقد أيضاً، وهو يريد أن يتحدث معه ويثبت له أن أمثاله من يضرُّون بالأدب. يريد أن يجعل الناقد نادماً عما فعل وأن يعتذر له. كان إمره يرى نفسه سيفاً لكلِّ الكُتّاب الذين تحطّمت قلوبهم.
بعد أن حلّ المساء، ركب إمره الموتوسيكل وانطلق بين زحام إسطنبول. كان ينظر إلى الناس في العربات ويفكر في عدد الذين يخططون مثله الآن للقتل.
قضى تلك الليلة في تطوير الخطط لجريمة القتل، وفي اليوم التالي ذهب أمام بيت الناقد ولكن بدون الموتوسيكل. اختار وقتاً مناسباً، رأى الناقد وهو يدخل البناية بنفس ثيابه التي رآه بها من قبل، ودخل آخرون من بعده. لم يكن بينهم من هم في عمر زوجته أو ابنه.
في اليوم التالي ذهب إمره إلى نفس المكان في نفس الوقت، ورأى الناقد وهو يدخل إلى البناية، وبعد نصف ساعة صعد إلى الطابق الثالث، وبضوء الهاتف المحمول وجد باب المنزل رقم 8. كان صوت التلفزيون والأطباق تأتي من البيوت الأُخرى، لكن منزل الناقد ساكن تماماً. وضع أذنه على الباب لكي يسمع أي شيء ولكن لم يصله الصوت. وفي هذه الأثناء، سمع إمره صوت أحدهم يفتح الباب في الطابق الثاني، وبعد توقف الصوت نزل إمره وخرج من البناية ثم نظر إلى البيت فوجد ضوءاً واحداً مشتعلاً.
فكر إمره بهذه الليلة في حياة الناقد. على الأرجح لا يوجد أحد غيره في البيت، ربما سافرت زوجته وابنه، لكن هذا الأمر غير وارد في أيام الدراسة، وربما يعيش كل منهما في بيت منفصل. كان يتوقع أن يكون الناقد وحيداً في البيت، لأنه يعود بيدين فارغتين كل يوم إلى البيت أو يأخذ أشياء صغيرة. إنه لا يشبه رب الأسرة، وبدأ إمره في الشعور بالفضول تجاه حياة الناقد. كان يبحث عن معلومات حول الناقد نهاراً، وفي الليل يخطط لقتله. كانت تأتيه أفكار مختلفة للقتل، لكن خطة الزئبق الساخن كانت تستقر في رأسه أكثر من غيرها. ولكن لسبب ما، بدأ في الشعور بمشاعر مختلفة. ليس تعاطفاً أو ما شابه. وربما كان يعجبه أن يكون قد شغل حيزاً كبيراً في حياة هذا الناقد، ولذلك كتب عنه ما كتب، رغم أنه لا يعرفه.
من الشخص الذي من الممكن أن يكون هو الأهم في حياة شخص ما؟ ربما أمه التي ولدته وربته ووهبته الحياة. ومن يكون الشخص الثاني في الأهمية بالنسبة لشخص ما، وهل من الممكن أن يكون هو الشخص الذي يأخذ حياته؟ ووفقاً لإمره، فإن أهم شخص في حياة الناقد هو أمه محمورة حصارلي جيل، والشخص الثاني هو إمره كاراجا. هل يا ترى بسبب هذه الفكرة، يذهب إمره للوقوف أمام بيت الناقد كل يوم، وهل يتعقب الناقد لهذا السبب، ويقرأ كتبه، ويحاول أن يعيش معه نفس الحياة؟ هل يحاول إمره الهروب من همومه بهذه الطريقة؟ لا، إنه يريد أن يعاقب الناقد ليس لمسألة شخصية، ولكن يريد أن يثأر لكلّ الكُتّاب الذين تعذبوا مثله. لم يكن يشك في حبّه للسلام، فهو لا يُحزن حتى النملة.
بطاقة
Zülfü Livaneli كاتب ومُخرج وموسيقي وسياسي تركي من مواليد 1946 في منطقة إيلجين بقونية. سُجن بعد الانقلاب العسكري في بلاده عام 1971 بسبب نشاطاته السياسية، ما دفعه إلى مغادرتها عام 1972؛ حيث عاش متنقّلاً بين اليونان والسويد وفرنسا والولايات المتّحدة، قبل أن يعود إليها عام 1984. أخرج عدّة أفلام، وتُرجمت أعماله الروائية إلى لغات عديدة، كما حُوّل بعضُها إلى مسرحيات ومسلسلات تلفزيونية
زولفو ليفانلي
Comments are closed.