المكتب الرئيسي عدن

بالكاد أُعلّمكَ الغناء سرّاً

غِناءٌ ليلي

ستأتي، أيّها الوجه الجميل،
في ينابيع الشتاء الساخنة؛
في قطرات المطر الأولى، تلك التي تُشتِّت انتباه السّهران،
المطر المنهمر ببطء يعيد، قطرةً قطرةً، الحكايةَ الخرافية ذاتها؛
ستأتي في الغصن المائل الذي يخدش الباب بحنوٍّ؛
في غِناء العصفور الذي يطلب المأوى فيدقّ زجاجَ النافذة – آه أيّها العصفور الرقيق
أنتَ لم تجرح قلباً ولم تكسر ساقاًǃ

ستأتي،
حينما أرغب في مناداة شخصٍ ما صدفة،
ولكنْ يمنعني حيائي.
ستكون هنا دون أن أناديك
بينما تعوي ذئاب الهجران عواءَ القطيع عند القبر.

ستأتي، أيّها الوجه الجميل، وَهْماً مُرصّعاً بالحياة،
في كلّ ينابيع الشتاء النقية؛
ستأتي: أيّ بردٍ غريبٍ هذا الذي أشعر به بين ذراعي العالم؟

■ ■ ■

ستقولين لها

ستقولين لها
غادَرَ…
بعد أن عاش حياةً طويلة جِدّاً،
حياةً بسيطة وعبثية
كالسَّفر الذي نقبع فيه منتظرين.

ستقولين لها
تَرَك على المقعد
الجواهر التي كان سيضعها حول رقبتكِ،
وكُتبه داخلَ عُلب السّفر من الورق المُقوّى.

ستقولين لها
تخلّى عن القصيدة التي كان يكتبها لكِ، عندما وصل إلى المقطع الذي كان سيُجهِز عليه؛

أوراقٌ متناثرة على الطاولة،
وأخرى تغرق في وعاء من الماء
كأنها أطوافٌ خفيفة
ما زالت تتشبّث بها كلماتٌ غريقة قد فارقتها الحياة.

■ ■ ■

إيقاعات

كُنتُ ظِلاً يُهديه الجِنُّ إلى الأمكنة. كنتُ أنتظركِ عند مخرج كهوف التينيري الحمراء. كنتُ ظلاًّ منعشاً وحارساً وعاشقاً. كنتُ أنقلكِ إلى حايك* السراب عندما كنتِ عاريةً من الأحلام، عندما لم يكن لديكِ ما تشربينه في الرِّقّ. آهǃ كانت الصحراء شاسعة جِدّاً ومُفكَّكة، مثل حياةٍ لم يكن لها معنى، مثل أنينٍ لا ينتهي.

ثمّ ها أنتِ تلمسينني،
وَهَا أنا أُبعثُ:
كنتُ مُعلَّقاً في الهواء، بين صفحات الغلاف الجوّي.

كُنتُ أعرف أنّكِ أنتِ مَن عرفني خلال حادث الصّليب ذاك
حين كنتُ ظِلّاً،
قبل أن أُكون روحَ ظلّ
بعدما كنتُ عصفوراً، في الهواء الذي علّقه الصّيّادون؛
واختفى العصفور
بعدما كنتُ غُصناً سيرتاح عليه العصفور؛
واختفى الغصنُ
بعدما كنتُ شجرةً سينبعثُ منها الغصنُ؛
واختفت الشجرةُ
بعدما شرعَ كلُّ شيءٍ في التباطؤ،
إلّا الموتُ.

ماذا يهمّكِ في حقيقةِ أو لا حقيقةِ قِصّتنا
الآن وأنتِ تشعرين بمعناها
الآن وأنتِ تسمعين أصواتها وإيقاعها في الحياة؟

  • حايك: لحاف تقليدي جزائري ترتديه النساء في بعض مناطق البلاد عند الخروج من البيت.

■ ■ ■

البريء

أيّها النّاسُ البُسطاء المنقسمونǃ يا جماعات النّهار أو يا جماعات اللّيل
يا أورفيوس المُتعدِّد:
استدرتَ أو غَذَذْتَ السَّيرَ
قَدَرُكَ هو الجحيم دوْماً
ما دمتَ لا تمتلك قوة النَّهْر الإنسانيّة
ولا ضربةَ البرق.

أَجَلْ
لا نمشي اليومَ والبارحة
لو كُنّا لا نحبّ طريقنا الطويل
لا نمشي لو كُنّا لا نشعر بوجع الرّحيل.

أيّها المشّاء اذْهَبْǃ لا تستدِرْ نحويǃ
قد لا تفهمُ شيئاً مِمّا أقول همسًاً.
في الحشد كنتُ أنشرُ أزرقَ التخيُّل
بينما أنتَ، مثل جناحيْ قطرس بودلير
كنتَ تصرخ في المكان وتمدُّ ذراعيك.

ما قلتُه، الآن هو بعيد جِدّاً،
قِسْطٌ مِن آمالنا جرفته الأمطارُ الأولى.
الثورة تمضي باندفاعها
وأنا لا أدري ما الشيءُ الذي أهربُ منه.

وتقول لي ما الجدوى إذاً من وجودكَ؟

آهǃ أنا أهوى الأفْضلَ العابرَ
ولستُ مع الحَفْرِ في اللّيل عَبَثاً
لستُ مع الألقاب ولا مع المال:
إنّني بِالكاد أُعلّمكَ الغناء،
سِرّاً،
في مدرسة لا تبدو كذلك.

وأصمتُ، ويمتدُّ حقلُ الممكنِ،
أو أركض كالمجنون
حامِلاً الماء للعدالة البيّنة وللعقل.

بطاقة

شاعر ومترجم جزائري من مواليد وهران عام 1952. اشتغل مدرّساً ثم صحافياً مستقلّاً مختصّاً بالشأن الأدبي، وهو متقاعدٌ حالياً نَشَر العديد من المجموعات الشعرية؛ من بينها: “أغاني العاشق الوهراني” (Les chants de l’amant oranais) و”تكريم الهائم” (Hommage à l’errant). نقل إلى الفرنسية عدداً من الروايات لكُتّابٍ جزائريين، وتُرجم بعضُ نصوصه إلى عددٍ من اللغات.

محمد سْحابة

Comments are closed.