حمزة بوبكر.. القرآن في ترجمةٍ وضعيّة
تمرُّ في هذه الأيّام الذكرى الخَمسون لِصدور ترجمةٍ فرنسيّة للقرآن أنجزها رجل السّياسة الجزائريّ حمزة بوبكر (1912 – 1995)، مردفًا إياها بتفسيرٍ يُجلي دلالاته في السّياق الفَرنسيّ، بُعيد الحقبة الاستعماريّة في الجزائر. فقد حُرِّر هذا العَمل بين سنتَيْ 1966 و1972، حقبة تمثّل منعطفًا تاريخيًّا حاسمًا؛ حين بات الحضور العربيّ – الإسلامي في فرنسا جزءًا من النّسيج المجتمعيّ ذاته. وقد أراد بوبكر أن يواكبَ هذا الحضور من خلال إنتاج تَفسيرٍ كاملٍ بلغة موليير التي ما كادَها أن تعودَ إلى التّراث الإسلامي لتنتقيَ منه ما يتلاءم مع رغبة القارئ الفرنسي، أكانَ مسلمًا أم لا.
في شخصيّة حمزة بوبكر مفاتيح عَديدة قد تفسّر نُهوضه بهذا العمل المهمّ: فمنها أنه سليل أسرة صوفيّة، وُلد وترعرع في واحة بَرْزينَة بـ صَحراء الجزائر، وورثَ مَشرَبها الروحيّ وحاول أن يبثّه في ثنايا هذه العمل المزدوج. وكما ذكَر في المقدّمة، فقد تلقّى تعليمًا دينيًّا معمّقًا وتحصّل على إجازات من علماء الدين التقليدييّن، وبعد ذلك فاز بأرقى الدّرجات العلميّة بجامِعات فرنسا، حيث صار أستاذًا مُبرّزًا في اللغة العربيّة، ولذلك اشتمل تفسيره على سائر المعارف الراهنة في العلوم الإنسانيّة والأخلاق والعقائد والفلسفة وغيرها.
ومنها أنّه كان منخرطًا بشكل كبير في العمل السياسي والجمعياتي، حيث ترشّح ليكون نائبًا برلمانيًّا عن منطقة الواحات بالجزائر. وبعد انتقاله إلى فرنسا، سعى إلى التأثير في وضعيّة المسلمين الاجتماعيّة فيها، ساعيًا إلى أن ينالوا حقوقَهم كاملةً مثل سائر المُواطنين الآخرين، من خلال عِمادته لمسجد باريس التي امتدّت من سنة 1957 إلى 1982، وهو المسجد الذي ظلّ، لفتراتٍ ممتدة، الصوتَ الرسميّ للإسلام في هذه الدّيار.
قام منهجه على اقتراح ترجمات متعدّدة للآية نفسها
وقد أنجز هذا العمل وصُحّح على مراحلَ ثلاثٍ، حيث أجرى الكاتب الكثيرَ من التحويرات والإصلاحات في الطبعة الثانية (1978)، كما أعدّ طبعةً ثالثة، نهائية، صَدَرت بعد وفاته (1995)، وفيها عمّق بعضَ المسائل وأدخل الكثير من التنقيحات على ضوء ما تعرّض له من ملاحظاتٍ. ومع ذلك، تثير هذه الترجمة وما صَحبها من تَفسير العديدَ من الأسئلة التي لن يُجابَ عنها إلّا بعد التقصّي الدقيق لأجزائها والقراءة بين سطورها. ومن بَينها: هل أثّرت خلفيّات حمزة بوبكر الفلسفيَّة، بما فيها نزعته الباطنيّة، في اختيار بعض المواقف وتسريبها إلى خطابه؟ وهل أسهمتْ، بسبب بعض خياراتها، في صُنع ما اصطُلحَ عليه، في السّنوات الأخيرة، بـ”إسلام فرنسا”، من حيث تَطويع الخطاب التفسيريّ وحتى الترجمة، إلى المَبادئ الغربيّة عبر لغةٍ نازعةٍ إلى الوضعيّة؟ وهل غيّرت هذه اللغة، بما تَضمّنته من عُدولٍ وموضوعيّة، من طبيعة المغزى القرآني وقيَمه المرتبطة ببيئَة النّبوءة؟
وقد خاض بوبكر غمار التّعريف بالإسلام على واجهتيْن: نقل النصّ القرآني العربيّ بأنصع عبارة فرنسيّة، يفهمها عامّة المسلمين المقيمين في ديار الغرب، ويَستسيغها القارئ غير المسلم ممن أراد الولوجَ إلى هذا النصّ، الذي غالبًا ما أُخِذ عليه غموضُه وتشعُّب مَوضوعاته وغياب المنطق الذي تعوَّد عليه هذا القارئ الغربيّ. وكان منهجه في النقل يقوم أحيانًا على اقتراح ترجمات متعدّدة للآية نفسها، يضعها في الهامش للتدليل على احتمالية القراءة، ممّا يضعنا أمام نصّ متنوّع منفتحٍ، أسهمت في بلورته سائر الفرَق والجماعات والعُقول، الأمر الذي يؤهّله لقبول الحداثة والتفاعل إيجابيًّا معها.
ومن جهة ثانية، أجرى بوبكر شروحًا مختصرة مركّزةً، وضعها في الصفحة المقابلة للتّرجمة من أجل الإضاءة على مَضمون كلّ آيةٍ وإبراز سياق نزولها ومدى خصوصيّتها أو عُمومها، ضمن بحثٍ عن كلّيات القرآن ومبادئه العامّة. فكان يصدِّر كلّ سورة بمقدّمة يستعرض فيها موضوعَها الرئيسيّ. وربّما كانت أطول هذه المقدِّمات تلك التي خصّصها لسورة “محمّد”، فهي تقع في أكثرَ من أربعَ عشرةَ صفحة.
وقد اعتمد الكاتبُ، في إجراء شروحه، على التفاسير الإسلاميّة القديمة، مختارًا منها صفوةَ الآراء، في ما يشبه الخلاصة العامة، بعدما نقّاها من شوائب الخلافيّات ومظاهر التعقيد اللغويّ التي حفلت بها هذه التفاسير، مع أنه حرِص، كما ذكرَ في العنوان الفرعيّ لتَرجَمَته، على ذكر آراء المدارس المهمّشة والمَهجورة في تاريخ الفرق الإسلاميّة، رغبةً منه في تقديم رؤية منفتحة إلى كلّ التيارات، بما فيها تلك التي رُمِيت بِمخالفة آراء أهل السنّة؛ كالمعتزلة وبعض غُلاة الصّوفيّة والفلاسفة.
كما أنه حرّر تعليقاتٍ مستفيضة على الأحداث والمبادئ التي شَهدها الإسلام، والتي قد يُشْكِل بعضُها على الحساسيّة المعاصرة: فمِن ذلك أنّه خصّص تعقيبًا مُطوّلًا على واقعة الإسراء والمعراج، وأبان عمّا تخلّلها من العِبر الأخلاقيّة والروحيّة، دون الدخول في التفاصيل التي قد تَصدم حساسيّة القارئ الغربي. وأخيرًا، ذيّلَ الكاتبُ عَمَله هذا بملاحق عامّة تضمّ أهمّ المفاهيم المستخدمة وأسماء الأعلام وغيرها، فضلًا عن قائمه مطوّلة بها أكثر من 800 من المَراجع والمصادر بالعربيّة واللغات الأوروبيّة.
سايرَ في بعض اختياراته آراءً غربية ومقولات استشراقية
وما من شكٍّ في أنّ آفاقَ انتظار قارئٍ غير مسلمٍ، عَقلانيِّ النزعة، وضعيِّ القناعات، هي التي حرّكت هذه الترجمة من طرفٍ خفيّ، فقد وجّهَها صاحبُها، أكثرَ ما وَجّهها، إلى دوائر المثقّفين الفرنسيين، من كلّ الدّيانات والمَشارب الفكريّة والفلسفيّة، وهو ما يُفسّر شكرَه “أصدقاءه وقرّاءه من اليهود والمسيحيين والبوذيّين وغَيرهم”، بعدما ذَكَّر أنّ من المَسموح له، دينيًّا، أن يَتحاورَ مَعهم وأن يُعرّفَهم بدينِه وبِكتابه المقدّس، بأسلوب موضوعيٍّ.
ولعلّ هذا ما تجلّى في بَعض اختياراته المعجميّة ومَواقفه التفسيريّة وحتى أسلوب الكتابة الجافّ أحيانًا، فهو مثلا لا يقول: “الله”، بل “Dieu”. ومن ذلكَ أيضًا مسايرته، في بعض المواطِن المعضلة، للآراء الاستشراقيّة ولا سيّما في ما يتعلق بترتيب الآيات داخل السوَر؛ إذ كان يشكّك في شرعيّة تلك المواقع وعَدم تناسبها مع التماسك الفكريّ أو الحَدَثيّ لبعض الوقائع، مثل تعليقه على خطّية أحداث طوفان نوح وعلى تكرّر بعض الآيات، ممّا يفضي، في رأيه، إلى اعتبار ذلك الترتيب من اجتهاد الصحابة، وليس وحيًا إلهيًّا.
وهكذا، إذا استثنينا بعض الاختيارات المعجميّة هنا وهناك، وبعض الإشارات الجزئيّة في القسم التفسيري، فإنّ هذه الترجمة تظلّ من أحسن الترجمات الفرنسيّة من حيث قوّة التعبير وتَماسُك النظم وجَودة السّبك، إلّا أنها مُوجّهةٌ إلى خاصّة القرّاء، لا عامّتهم، وتُخاطب العقول الوضعيّة المتأثّرة بالمناخ العلميّ المعاصر، والتي قُدَّتْ حَسَب القوالب الديكارتيّة، أكثر من مخاطبة الضّمائر المتعطشة إلى بَساطة كلام الله الذي يهزّ أعطاف القلوب ويخترق شغافها.
- كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
Comments are closed.