سنبدأ من غيمة عابرة
سَنبدَأ مِنْ غَيْمَةٍ عَابِرَه.
فنجْعَل مِنْ ظلِّها خيمةً،
كائناتُ الحديقةِ تأوي إليها،
وقد تستطيلُ، فَلا بأسَ إنْ خرَقتْها،
لتفتَحَ بعضَ السَّماواتِ في سَقْفِها.
خيمةٌ، ستكونُ إذاً فسحةً لا حجاباً…
ولكنَّها فُسحةٌ نحنُ نرسِمُها،
وَنُحَدِّدُ أطرَافَها،
ونُسَيِّجُها بانتباهاتِنا الحائرهْ.
■ ■ ■
سنبدَأ مِنْ غَيْمَةٍ عابِرَهْ:
هَكذا قُلْتُ للشَّجَراتِ اللّواتي أحَطْنَ ببيتي.
فَقُلْنَ: إذا غيمَةٌ ظَهَرَتْ
نَسْتَطيلُ، ونَهفو إليها،
فترمي لنا ظلَّها
ثمَّ تبقى لدينا.. وإنْ عَبَرَتْ.
■ ■ ■
وأنتنَّ أيّتُها الشَّجَراتُ اللّواتي شَمَخْنَ،
اتَّخِذْنَ مواقِعَكُنّ،
كما الجُنْدُ عندَ بُروجِ القِلاعِ،
وراقِبنَ ما يتحرَّكُ خلفَ السِّياجِ،
وما يتحفَّزُ داخلَهُ،
وسأغرسُ – دعماً لَكُنَّ – على الحدِّ غرساً كثيراً،
فتنمو الحديقةُ إذَّاك،
تهوَى حُدوداً، وتمحو حدودا.
وتنهضُ فوقَ الثّرى،
تتنفَّسُ نحوَ العَلاءِ
وَتسمو صُعُوداً صُعُودا.
■ ■ ■
وللطّيرِ أنْ تتحرَّى مواقِعَها في الحديقة،
في كلِّ أنحائها.
فالتُراب هُنا، والصُّخورُ هُنالكَ،
والشَّجَراتُ الكبيرةُ،
والشَّجَراتُ الصَّغيرةُ،
والبيتُ، والعشبُ، والماءُ…
ما كانَ ذلكَ إلّا مَواقِعَ للطَّيرْ.
■ ■ ■
والرَّوابي التي تتموَّجُ شرقاً وغرباً،
شمالاً، جنوباً…
تجيءُ وَتخْفقُ حَوْلَ الحَديقةِ،
تجعلُها تتدرَّجُ،
تعلو وتَهبِطُ، تأتي وَتَذْهَبُ،
مثلَ الرَّوابي… وأمواجها.
■ ■ ■
والفصولُ تمرُّ…
سنُبدي لها، كلَّما أقْبَلَتْ،
سُبُلاً، شُرُفَاتٍ، مَقَاعِدَ،
كي نتحكَّمَ فيها.
وإذَّاكَ، تغمُرُنا مثلَمَا نشْتَهِي.
وتفارِقُنا مِثلَمَا نَشْتَهِي.
■ ■ ■
وإحدى الشُّجَيْراتِ،
وَسْطَ الحَديقةِ برِّيةٌ.
هيَ كانت هُنا قبلَنا بكثيرٍ.
سَنَجعلُ مِنها دليلاً لنا ولأشْجارنا.
فهْي شَاهِدَةٌ – رُبَّما مِنْ قُرون –
على كلِّ ما عاشَ أو ماتَ،
في تربةً أنبتتْها بلا سببٍ… واصْطَفَتْها.
سَنَجْعَلُ منها دليلاً لنا ولأشْجارنا.
فهيَ تعرفُ كيفَ تمرُّ الرِّياح،
وكيفَ تمرُّ الفُصولُ،
وكيفَ تروحُ الشُّموسُ وتغْدو، هُنا
حيثُ تنمو حديقتُنا.
هي بَريَّةٌ،
قاومتْ
ثَبَّتَتْ نَفْسَها في الزَّمانِ الّذي ليسَ يُبْصرُ،
لمْ تَطْلُبِ العَوْنَ، لمْ تحتَجِ العَوْنَ،
بل قدَّمتهُ لكلِّ الطُّيورِ الّتي عَبَرَتْ،
ولكلِّ جدیدٍ يلوذُ بها..
هي شاهدَةٌ
وهْيَ حارسَةٌ كلَّ غرسٍ جديد.
سنأوي إليها، ونحفظُ عهداً لها،
وسنجعلُ منها دليلاً لنا ولأشجارِنا.
■ ■ ■
…
وللتِّينِ بعضُ فُروخٍ،
تبقَّتْ مِنَ “الكرْمِ”.
كَرْمٍ هوَ الأصْلُ،
أصْلُ الحديقةِ والبيتِ…
كانَ عريشاً وتيناً.
وها هيَ ذِكراهُ ماثِلةٌ في الفُروخِ،
الّتي تمنَحُ الصَّيفَ بعضَ الثِّمارِ،
تقولُ لهُ: لا سبيلَ إلى اليَأسِ…
هذا هوَ التِّينُ: هشٌّ، ولكنَّهُ صامِدٌ.
تستكينُ فُروعٌ لهُ، تنثني تعَباً، تتهاوى،
فيأبَى الخُضوعَ،
وإذْ كلُّ جَذْرٍ لهُ، يَتَخَلَّقُ كوكبةً مِنْ فروعٍ فروخٍ.
سنرعى الفُروخَ،
ونُذْكي توثُّبَها.
وَسَنَغْرِسُ تيناً جديداً،
عرائشَ أيضاً،
لينبعثَ “الكَرْمُ”
أصلاً وفرعاً.
■ ■ ■
وليسَ بعيداً مِنَ البيتِ زيتونَةٌ،
نَخَرَتْها السِّنينُ،
ولكنَّها لم تَنَلْ مِنْ تَجَذُّرِها في الزَّمانِ،
لأوراقِها ولأغصانِها نِعْمتان: سنًى ووقارٌ.
وَلَيْسَتْ لِتَأبَهَ مَهْمَا يَمُرُّ بِها.
نَهَضَ البيتُ بالقُربِ مِنها، ولسْنا لنعْرِفَ عُمْراً لها.
فهْيَ ثابتةٌ،
وَمُعَمِّرةٌ،
وَتُعلِّمُنا فرحاً هوَ كالطِّفلِ في ظلِّها.
فلتَظَلَّ هُنا قُربَنا مَعَنا
عُمْرُها يَسْتَخِفُّ بأعْمارِنا.
■ ■ ■
في الحديقَةِ ناحيةٌ للصَّنوبرِ،
بلْ لِصَنَوْبَرَتَيْنِ اثْنَتَين…
كأنَّ الهواءَ الّذي يتغلغلُ بينهما،
يتعثَّرُ مُرْتَبِكاً في حَناياهما، ويبوحُ بأسرارِهِ كُلِّها.
ثمَّ لا يتسلَّلُ مِنْ بَعْدُ إلّا سَقيماً،
كصَبٍّ يُواصِلُ شَكْواهُ…
نَجْعَلُ ناحيةً للصَّنوبرِ،
والسَّروُ لا يتردّدُ،
نترُكُهُ يَتَجَوَّلُ في كلِّ ناحيةٍ مِنْ نَواحي الحديقةِ،
غيرَ مُبَالٍ بِشَكوى الصَّنوبرْ.
■ ■ ■
…
والزُّهورُ انتَحَتْ كُلَّ ناحيةٍ في الحَديقَةِ،
وانتشَرَتْ وسْطَها.
لَمْ نُعِدَّ لها خطّةً أوْ نِظاماً.
تَرَكْنَا لها أنْ تُغَادِرَ أحْواضَها،
أنْ تَرَى نَفْسَها حُرَّةً في الثَّرى،
في الهواءِ،
وَحَتَّى على الصَّخْرِ،
أنْ تَتَبَعْثَرَ ألوانُها دونَ قَيْدٍ.
زُهورٌ، زُهورٌ، زُهورْ.
تَرَكْنا لها أنْ تَرَى بعضَ ألوانِها في الصُّخورْ.
■ ■ ■
والجدارُ البَعيدُ، الّذي هوَ بعضُ السِّياجِ،
سَنَجْعَلُ باباً كبيراً لهُ.
لا لشيءٍ،
سِوَى أنْ يكونَ لنا عالَمانِ:
صغيرٌ،
وآخرُ، أكبَرُ أكبَرُ…
يأتي يَطوفُ حولَ السِّياجِ،
ويدخُلُ مِنْ بابهِ…
■ ■ ■
وَالطَّريقُ إلى البَيتِ،
نجعلُ بابَ الحديقَةِ مفتاحَهُ.
ثُمَّ نتركُهُ يَتَعرَّجُ مُسْتَهْدِياً نحوَ قلبِ الحديقةِ،
كيْ يرتقي بعدَ ذلكَ،
نحوَ السَّماءِ الَّتي هَبَطَتْ،
واستقرَّتْ عَلَى الشُّرفاتِ الّتي
انطَلَقَتْ في جميعِ الجِهاتْ.
■ ■ ■
إذاً
بيتُنا هوَ شُرْفَتُنا
لنرى ما وراءَ سِياجِ الحَديقةِ،
مُنْطَلِقاً،
مُقبلاً نَحْوَنا.
■ ■ ■
فَشَرْقاً
بعيداً، بعيداً،
وَراءَ الرُّبى والقُرى،
ينتهي المَشْهدُ المُتَرامي إلى “جبلِ الشَّيخ”
قالوا: هوَ الشَّيخُ، يعرِفُ ما حَوْلَهُ،
يتبصَّرُ مِثْلَ “كبيرِ أُناسٍ” غزا الشَّيْبُ هامَتَهُ.
فالثُّلوجُ تكلِّلُهُ في الشِّتاءِ،
ولكنَّهُ يَتَخفَّفُ في الصَّيفِ،
يُجري عِمامتَهُ،
كي يُغَذِّي اليَنابيعَ،
يخرجُ بينَ الرُّبى والقُرى حاسراً.
إنَّهُ جبلُ الشّيخِ،
نجعلُ في بيتِنا شرفةً نَحْوَهُ،
مَدْخَلاً للصَّباحِ الّذي يتبلَّجُ مِنْ فوقِ هامتِهِ.
يتبلجُ أبيضَ أبيضَ،
مثلَ عِمامتِهِ في الشِّتاءِ…
ويظلُّ بصُحْبتِنا،
ثابتاً،
ذاهباً في عنانِ الفَضاءْ.
■ ■ ■
للمَساءِ كذلكَ شُرْفَتُهُ عِندَنا.
فَضِياءُ الغُروبِ الّذي يَتَسلَّلُ بينَ الغُصونِ،
يجيءُ ويجلِسُ مُعْتَذراً بيننا،
قبلَ أنْ يَتَوارى.
وَنَحنُ نُلامِسُهُ، إذْ يُلامِسُنا،
فنُداري ارتباكاً لَهُ،
ثمَّ نتركُهُ يتلاشى قليلاً قليلاً،
ليتركَ نبضاً لهُ،
في الزَّوايا الّتي تتشرَّبُهُ.
تَتَشرَّبُهُ
ثُمَّ تُغمِضُ أجفانَها.
■ ■ ■
ونحوَ الشَّمال، لنا شُرْفَةٌ.
في الظَّلامِ تَجيءُ إليها نُجومٌ،
فتملؤها.
وهيَ لا تَكْتَفي.
بلْ تُراوِدُ أبْعَدَ مَا يتراءَى لَها مِن نجومٍ
وَلَا تكتفي.
تَسْتَبِدُّ بِها نَجْمَةٌ لا تَرَاها،
تُؤرِقُها طيلةَ اللَّيلِ،
مِنْ بينِ كلِّ النُّجومْ.
■ ■ ■
وأمّا جَنوباً
فَنَحْوَ فلسطينْ.
وأكثرُ مِنْ شُرْفَةٍ هيَ كالبَرْقِ عبرَ السِّنينْ.
فواحِدَةٌ للتَّذكُّرِ،
واحدةٌ للتوجُّسِ،
واحدَةٌ للمَعَاني الّتي هاجَرَتْ، ثُمَّ آبَتْ
وتبقَى تُهاجِرُ ثُمَّ تَؤوبُ…
وأكثرُ مِنْ كُلِّ ذلكَ طيْفُ الأسَاطيرِ،
تغْدو بها، وَتروحُ،
رِياحُ الجنوبْ.
■ ■ ■
سَنَتْرُكُ للبيتِ أنْ يَتَنامى وَيمتدَّ،
كالشَّجراتِ الّتي هيَ مِنْ عُمْرِهِ.
رافَقَتْهُ ثلاثينَ عاماً،
تُلاحِظُهُ وهوَ يزدادُ شيئاً فشيئاً.
ولكنَّها سَبَقَتْهُ علواً،
لترْعاهُ من كلِّ ناحيةٍ، لتُظَلِّلَ حتّى أعاليَهُ،
لتكونَ معَ الشَّمسِ بعضَ الفَضاءِ الّذي يتنفَّسُ فيهِ…
نَمَتْ حوْلَهُ
وهوَ مَا زالَ ينمو نموَّ الشَّجرْ.
وَصَارَتْ لهُ في التُّرابِ جُذورٌ،
مَعَ الماءِ فيها تآخى الحَجَرْ.
نَمَتْ حولَهُ الشَّجرات،
عَلَتْ،
سَبَقَتْهُ عُلُواً…
وأكثرَ ما يَتَطَاوَلُ،
أكثرُ مَا يتعمَّقُ في الأرضِ،
“كينا”.
هُوَ الشَّجَرُ المُتَمَكِّنُ،
يَحْتَرِفُ الرَّبطَ بينَ الترابِ وبين الفضاءْ
يقولونَ عنهُ:
الجُذورُ بِطولِ الفُروعِ،
… وينثرُ زهراً لهُ كالبذورِ
فينبثِقُ النّبْتُ في شُرفَةٍ أوْ جِدارْ.
وهوَ يبذُلُ مِنْ نَفْسِهِ إذْ تهبُّ العَوَاصِفُ،
يبذُلُ مِنْ حُرِّ أغصانِهِ،
كي يذود عن البيتِ،
يجعل من نفسه حاضناً أو ستارْ.
إنهُ شجرٌ يتطاولُ أكثرَ مِنْ غيرِهِ،
يتعمّق أكثر من غيره،
يحمل البيت،
يجعله آمناً في حِماهُ.
يقولونَ عنهُ: الجذور بطول الفروع،
لذلك يُحدِثُ في البيت بعض الشقوق،
يخلخلُ أسًّا له.
فنقول: هو الأسُّ،
ما كان بيت لنا قبله.
إنه تِرْبُهُ،
ومصيرُهُما واحدٌ.
والشقوق التي قد يسبِّبها،
هي بعض الملامح،
يظهرها العمر إذ يتقدّم،
لا بأس إن ظهرت في الحبيبين بعضُ العلامات،
تكشف عمر العلاقة بينهما.
إنه شجر يحمل البيت، يحنو عليه،
ويجعله ذا جذور،
تآخي مع الماء فيها الحجرْ.
ويجعله ذا فروع،
فينهض في كلِّ حين،
ويسمو سموَّ الشّجرْ.
■ ■ ■
ونجعلُ للشِّعر في بيتِنا غُرَفاً،
ونوافذَ،
كُلَّ النَوافذِ، كُلَّ الغُرَفْ.
وهوَ يفتَحُ أكثرَ ممّا جعَلْنَا لهُ.
ويعلِّمُنا أنَّ مَعْنى الإقامَةِ يَنْجُو
وَيَحلو
وَيَغْدو كثيراً
كثيراً
إذا كانَ بعضَ معاني الشَّغَفْ.
بطاقة
جودت فخر الدين (1953) شاعرٌ لبناني، له أكثر من عشرة دواوين، منها: “منارةٌ للغريق” (1996)، و”فصولٌ من سيرتي مع الغيم” (2011)، و”حديقة الستّين” (2016)، و”أكثر من عزلة، أبعد من رحلة” (2021). تُرجمت له مجموعتان إلى الإنكليزية، كما تُرجمت له قصائد إلى الفرنسية والألمانية. وهذه القصائد مختارة من مجموعته الشّعريّة الجديدة “هندسةٌ تليها تقاطُعات”، الصّادرة عن “العائدون للنشر”
Comments are closed.