عائدٌ لا يعود
مَن الذي نسي ظله؟
يبدو أن أحدهم نسي ظلّه في المقهى. لمَن هو يا تُرى؟ لا هو لطفل ولا لمسنّ. أغلب الظن أنه لشابّ في العشرين. كتفاه عريضتان وصدره بارز ويداه جامدتان كأنما قُدَّتا من صخر. يبدو أنه يمارس رياضة كمال الأجسام في النادي القريب.
وهناك أيضاً ظلُّ جريدة في يده. لا أعرف ما اسمها. ولكنّ رقم الصفحة هو الوحيد الظاهر عليها.
سأبحث عن رقم البيت الذي يحمل رقم الصفحة.
تملأ السيّارات البطيئة الشوارع المحيطة. لا، ليست بطيئة، ولكنّ الشوارع مزدحمة وضيّقة.
أصلُ البيت المقصود. أطرق الباب. دقّاتُ الساعة تدعوني للدخول. ظلالٌ كثيرة تكسو جدران البيت. إطارٌ خشبيّ بهتَ لونه. تلفازٌ يعمل باللاقط الهوائي، تعلوه ساعة منبّه لا تعمل.
حقيبةٌ جامعية على كرسي هزّاز، وروايةٌ بجانب وسادة على السرير، وبعض قصائد نيرودا مطبوعة على ورق حديثاً. أستطيع شمَّ الحبر الطازج عندما أقترب أكثر.
رائحةُ الغرفة متكدّسةٌ بالعتمة، والهواءُ يرطّبه السكون.
قُرب الباب، هناك حذاء، بنطال جينز، قميص، ملابس داخلية يفوح منها العرق.
كنت أعرض لكما هذه المقدّمة حتّى لا تصدمكما الإجابة
وهناك بابٌ خلفيّ للبيت غير مقفَل، تدخل منه أشعّة الغروب قليلاً. أقف على العتبة الداخلية للباب. أفتحه ببطء.
صوت عصفور في الفناء. الهواء أيضاً ساكنٌ في الخارج.
شابٌّ يعيش وحده في هذا البيت القديم، متجرّدٌ من ملابسه، إلّا من ساعة يده الرقمية. يستلقي في حمّام سباحته الرمليّ في فناء البيت الخلفيّ تحت شجرة. تسقط حبة ليمون ناضجة في حوض الاستحمام، تقع نملة من أعلى فرع، تتبعها نملة أخرى. تسقط فوقها تماماً.
يغمض عينيه، يدير وجهه جانباً، وتحمرُّ وجنتاه بعد مشاهدة النملتين اللاخجولتين.
سأقترب قليلاً.
أجزم أنني أراها الآن في عينيه. يبدو أنها هي تلك الفتاة التي رآها تمرّ خلف نافذة المقهى. أعتقد أنني رأيتها أنا أيضاً عند أوّل الشارع قبل وصولي المقهى. يبدو أن هذا الشاب رمى سهام عينيه تجاه الفتاة، تبِعَها، نسيَ ظلّه في المقهى، ربما لم يكمل لعبة الكلمات المتقاطعة، التي دائماً ما تُجاور إعلانات الوفيات والتهاني بالمواليد الجدُد. كأن المغادرين هذا المسرحَ يتقاطعون مع القادمين. ليست “كأن”، بل هو الحال بعينه.
أردّ التحية عليه، لكنه لا يسمع. أرفع صوتي فيصطدم صوتي بالسقف المنخفض. أخرج إلى الفناء، أعاود التحية، لا يسمع.
أرفع صوتي، يصطدم بشجرة النخيل فوقي.
أمسكُ حبة بلح وأرميها. تسقط في بركة الماء، فيتنفّس بطريقة دائرية تتوسّع.
ينظر حوله مرتبكاً. ينادي “مَن هناك؟”، أقول “أنا!”.
لا يسمع.
أرمي بلحةً أخرى، فيقفز من مكانه، ويوقف تنفّس الماء بفوضاه.
“أنا هنا.” أصرخ. لكنه لا يسمع.
ماذا! هل يعقل أنه أعمى، أو ربما قد غطّت صورة الفتاة عينيه فلا يرى سواها؟
أو ربما أنا الذي نسيَ نفسه في المقهى فلم يأتِ إلّا بظله إلى هذا البيت، وبقي جسدي وظِلُّ هذا الشاب يتحاوران ريثما يعود كلٌّ منّا إلى ما نسي؟
■ ■ ■
عائد لا يعود (تغييرٌ ضروري في السيناريو)
“في النهاية، أشكر لكم حُسن إصغائكم وتفاعلكم”.
يقف الجمهور مصفّقاً بحفاوة. يغادر معظم الناس القاعة، أمّا البعض الآخر فيعاود الجلوس، يتفحّص هاتفه، يلملم أغراضه، يضع زجاجات العصير الفارغة في سلّة المهملات، وينصرف في حال سبيله.
إلّا هو، ظَلّ واقفاً ويصفّق.
ينظر البعض إليه قبل أن يخرج من الباب. لا ينتبه. تقف طفلة على كرسيّ خلفه، تربّت على كتفه، ينظر وراءه. كانت القاعة فارغة إلّا من كرسي هنا وهناك والنافذة الكبيرة المفتوحة. يبتسم ويحمرّ خدّاه. تبتسم الطفلة وتلحق بأبيها الذي ينتظرها عند الباب الجانبي.
يُخرج هاتفه من جيبه. الساعة الآن الثالثة عصراً. يُرجع الهاتف إلى جيب بنطاله.
ها هو الآن يجلس على كومة من الصمت، يحاول كسره
عند الطاولة الأمامية، تضع الفتاة أوراق ملاحظاتها وكتاباً في حقيبتها الوردية. تهمُّ بالخروج. يرفع سعيد قدَمه المتجمّدة عن مكانها، يرتفع الغبار الصغير خلفها كأنما هو بخار الماء البارد.
تلتفت الفتاة إلى الصوت القريب البعيد. تبتسم وتخفض رأسها.
على بعد بضع أقدام.
خمس أقدام، قدمين.
لا يوجد أحدٌ في القاعة سواهما.
ببطء شديد، يفكّ سحّاب سترته السوداء المرقّطة بالأبيض. تتورّد وجنتاه.
بينما هي بارتباكٍ حذر تحلُّ زرّاً من سترتها البيضاء، ثم زرّين، ثم ثلاثة. تتوقّف.
يُخرج سعيد قلماً أزرق من جيب سترته الداخلي.
تُخرج روان هاتفها الذي يهتزُّ مع الرنين. تتعرَّق أصابُعها، يلتمع طلاء أصابعها الزهري في نظَّارات سعيد، يغمض عينيه، ينزل رأسه، يفتح عينيه على حذاء روان الأسود اللامع ثم إلى صندله الذي يعانقه غبار شارعهم الرملي كلّ مرة.
يقدّم القلم إلى روان ويُخرج كتابها الجديد من حقيبته البلاستيكية.
تردّ روان على الهاتف.
تصمت، تتّسع عيناها، تحرّك قدمها للوراء، تتعرّق، يذوب بعض الحُمرة البنّية الخفيفة من على شفتيها، تبلّل دمعةٌ بعض الكحل على عينيها العسليّتين.
تغلق خطّ الهاتف. تنتبه إلى سعيد الواجم أمامها. يتردّد في سؤالها عن كلّ هذه الانفعالات الصامتة على وجهها وقدميها.
يفاجئ نفسه بأن يقدّم الرواية والقلم لروان لتوقّع عليها.
تنسحب روان إلى الوراء، وبصوت خفيض تكاد هي تسمعه.
ـ “لا حاجة للرواية أبداً! مزّقها. فأبي الذي هو بطل روايتي، وجدوه ميّتاً في نهر”.
لا يصدّق سعيد ما تقوله روان.
ـ “لقد وجدوا جثّته في نهر السين بفرنسا، جيوبه مملوءة بالحجارة”.
ـ “لكنّ أباكِ لم يمت. رجع إلى الوطن في الرواية، أليس كذلك؟”.
ـ “وهل نحن في رواية؟”.
ـ “هل أنت متأكّدة أن أباك قد غرق في النهر وجيوبه مملوءة بالحجارة؟ ربّما المتّصل كان يخبرك عن فيرجينيا وولف”.
ـ “أبي ليس أنثى ونهر السين ليس في إنكلترا”.
تحثّ روان الخطا، تغلق حقيبتها وتشدّ أزرار سترتها.
قبل أن تصل الباب، يصرخ سعيد:
ـ “إذاً، غيّري عنوان الرواية إلى ‘عائدٍ لا يعود’. غيّري السيناريو في النهاية”.
ـ “وهل أنا أكتب الأدب حتى أنقل الواقع؟ لست صحافية”.
تُغلق روان الباب وراءها، كأنّه الصفحة الأخيرة في روايتها، ويبقى سعيد واجماً كدُمية تقف على المسرح تنتظر مَن يحرك خيوطها من تحت الطاولة.
■ ■ ■
العِقد والمليون دولار
تمشي ماري وليزا على الرصيف، بينما تتناوب إشارات المرور من بعيد على عكْس أضوائها على الأسفلت المبلّل منذ الصباح. تبدأ حُبيبات المطر بالنزول، لكنّ أيّاً من الفتاتين لا تفتح المظلّة الكبيرة. تكتفي ماري بوضع طاقيّةِ فانيلتها السوداء على شعرها القصير، بينما ترفع ليزا وشاحها الصوفي الجديد وتلفّه حول شعرها الأشقر.
ـ “لم تخبريني، ماري! إذا قلنا إنك سترثين مليون دولار من أحد أقاربك، ماذا ستشترين بها؟”.
ـ “لقد أخبرتك أكثر من مرّة أنه ليس لدي سوى عمٍّ واحد، وهو رجل معدم!”.
تصل ماري وليزا نهاية الشارع، تضيء شارة مرور المشاة. لديهما عشرون ثانية حتى تقطعا الطريق.
ـ “لا أعرف. دائماً ما أفكّر بأنّني سأصبح ثريّة في يومٍ قريب. أقضي وقتاً طويلاً في التفكير بما يمكن أن أشتريه لو حصلت على مليون دولار”.
تُشير شارة مرور المشاة إلى التوقّف. تقفز ماري وليزا بسرعة تجاه الرصيف الآخر.
ـ “ولكنْ تعلمين، هناك أشياء كثيرةٌ أودّ شراءها وربما ينقصني بعض المال. قلت، ربّما يزيد مع ماري بعض النقود وتقرضني إيّاها لعدة أشهر. ها! ما رأيك يا ماري؟”.
ـ “هل أنتِ في وعيك يا ليزا؟ مَن يستطيع أن يكون معه مليون دولار؟ أنا كاتبة مذكّرات ولست أجد مَن يشتري أيّاً من أعمالي. حتى أن الناشر الأخير قد اضطرّني للتعهّد بدفع ثمن طباعة الكتب إذا لم يبع ما يرد له ثمن الورق والحبر والتصميم”.
تنظر ماري إلى ليزا فتجدها تتلفّت يمنة ويسرة نحو لافتات المحلّات التجاري، وكأنها تبحث عن عنوان معيّن. تسأل أحد المارّة بصوت يكاد لا يُسمع: “هل يوجد في الشارع متجر ‘جونز’؟”.
يفرك الشاب مقدّمة رأسه: “أعتقد أنه المتجر الذي يلي معرض ‘بوسطن غلوب’ للملابس الداخلية”. كان الشاب قد أخفض صوته عندما نطق “الملابس الداخلية”، وتلفّت إلى صديقته التي بجانبه.
ـ “حسناً، فلنسرع يا ماري، هناك شيء أريد أن أريكِ إيّاه. هيّا!”.
تشعر ماري بأن قدميها تسابقان بعضهما وبأن ليزا تحثُّ الخطى رغم تبلّل الرصيف وخطورة الانزلاق. معظم زبائن المحلّات على طول الطريق ينظرون إليهما وصوت أحذيتهما يضرب الأرضية الصلبة.
تتوردُّ وجنتا ماري كثيراً وهي في الطريق بينما رأسها مُطرِقٌ، لا تدري أين تأخذها قدماها ومن أين أتت ليزا بكلّ هذ القوة لتشدّها.
تُبرق السماء من بعيد، تهتزُّ أغصان الأشجار العالية مع قوّة الرياح القادمة من البحيرة القريبة. وعلى الأرض، تندفع أوراق الخريف، تدوس بعضَها السيّاراتُ المسرعةُ، غير مبالية بما يسبّبه ذلك من امتعاض للأطفال الذين يشاهدون الأوراق من نوافذ حافلة المدرسة.
تجد ماري نفسها واقفةً أمام متجر مجوهرات يعجُّ بالزبائن. تنتظران قليلاً في الخارج إلى أن يخرج بعض الرجال ترافقهم نساءٌ، يبدو أنّهن زوجاتهم أو عشيقاتهم. تدلف ليزا، وتدخل خلفها ماري مباشرةً.
ترفع الاثنتان ما على رأسيهما وتضعانه كلٌّ في حقيبتها الخاصّة. يتقدّم نحوهما شابٌّ وسيم. نظّاراته مستديرة، يلبس جاكيتاً أحمرَ وقميصاً أبيضَ وربطة عنق سوداء.
ـ “هل تبحثان عن قِرط أو عقد أو إسورة أو…”.
تتجاهله ليزا، تسحب يد ماري نحو خزانة زجاجية.
ـ “خذي نفساً عميقاً يا ماري وانظري إلى هذا العقد”.
لم تنتبه ماري إلى العقد الذي أمامها، وإنما كانت تنظر إلى الشاب الذي أحسَّ بالإهانة، حيث وجد نفسه محرَجاً مع فتاة أخرى سألته “هل تتحدّث معي يا سيدي؟ أعتقد أنني اشتريت للتوّ ما كنت أبحث عنه”.
تعبّر ماري عن أسفها من تصرّف ليزا، وتبتسم سريعاً.
لم تتمالك ماري نفسها عندما شاهدت ليزا وهي تحدّق بالعقد الذهبي خلف الزجاج. تحاول فتْح الباب الزجاجيّ، لكنّ صوت صفّارات الإنذار يدوّي سريعاً.
تصرخ ليزا: “ماري! كم مرّة أخبرتك بعدم التدخين في المحلّات التجارية؟”.
تتفاجأ ليزا بأن أحد حرّاس الأمن يكتِّف يديها خلْف ظهرها. لامست يد حارس الأمن مؤخّرة ليزا، تشعر بنشوة جنسية لكنّها سرعان ما تُبصر وجه ماري المكفهرّ.
“لقد سببتِ لنا المشاكل يا ليزا. لماذا دائما هكذا؟”.
تعتذر ماري من صاحب المتجر وتخبره أن صديقتها ليزا تتصرّف بشكل غير اعتيادي منذ فترة.
ـ “أنا بخير يا ماري. توقّفي عن هذا الهراء. أريد فقط أن أرى العقد عليكِ وألمسه. هل هذا جنون، ولماذا…”.
يقاطع صاحب المتجر سَيْلَ الصراخ المنهمر من فم ليزا. يذوب بعض أحمر الشفاه على ذقنها البيضاء. تمسحه لها ماري بطرف وشاحها.
ـ “هل يمكنك أن تخبرنا عن ثمن هذا العقد يا سيّدي؟”.
ـ “حسناً، هذه أثمن قطعة مجوهرات في المتجر، ربما في المدينة كلّها، حيث تأتي في منتصفها قطعة صغيرة من الزمرّد. أمّا عيار الذهب فهو…”.
تحدج ماري صاحب المتجر ببصرها، فينتبه الرجل أنه قد أغرق في التفاصيل ونسيَ السؤال. كان طوال الوقت ينظر في عيني ليزا الدامعتين.
ـ “حسناً، ربما كنت أعرض لكما هذه المقدّمة حتّى لا تصدمكما الإجابة. سعر العقد مليون ومئتين وخمسين ألف دولار، كاش”.
تنظر ليزا في عيني ماري المندهشة، تحدّقان في صاحب المتجر.
: “ربّما يستحسن بنا أن نمضي. يبدو أننا قصدنا المكان الخطأ”.
تقاطعها ليزا: “لا ليس الخطأ يا ماري. لقد قلت لك بأنّني يمكن أن أقترض منكِ جزأً من المليون دولار إذا ورثتِ شيئاً من أحد أقاربك. أمّا أنا فأعتقد أنني سأرث شيئاً من والدي الثريّ”.
“أعتقد أنه الآن حان دوري”.
تقبض ماري على يدَيْ ليزا النحيفتين وتشدّها بهدوء خارج المتجر.
ـ “أنت حقاً مجنونة يا ليزا! لن أتحدّث الآن عن الموقف التافه الذي وضعتينا فيه. ربما أنت لا تشعرين بذلك. لا أدري ما الذي حدث لك منذ فترة”.
تلتزم ليزا الصمت طوال الطريق. يشتدّ المطر قليلاً، تفتح ماري المظلّة. تُمعن النظر في الجهة الأخرى من الطريق. تتبادل النظر مع بائع السندويتشات المتجوّل.
فجأة، تنظر إلى ساعة يدها.
ـ “يا إلهي، ليس مرّة أخرى. الساعة الآن الحادية عشرة والنصف. سوف نتأخّر على محاضرة الدكتور كريستوفر. أعتقد أنه لن يسمح لنا بدخول الفصل. كلّ هذا بسببك”.
لم تنتبه ماري إلى أن ليزا لم تعد بجانبها. بمجرّد أن تلتفت إلى الخلف، تسمع صوت سيّارة تكبح عجلاتها قبل أن ترتطم بشخصٍ يقطع الطريق. تركض ماري، تقترب من السيّارة والسائق المصعوق. تجد ليزا مضرّجةً بدمائها وفي يدها العقد الذي رأتاه في المتجر، بينما صوت الإنذار لا يزال يدوِّي داخل المتجر.
■ ■ ■
كومة الصمت
لم يَسمع صوت دقّات الساعة حينما تُرخي أشعّة الشمس أصابعها على وجهه تحاول إيقاظه. ولا صورة الشاطئ والعربات الجوّالة عادت تتعلّق بالغبار على الجدار.
لم يعد صوت الديك يتزلّج قبل الفجر على الهواء عبر النافذة الخشبية، يتحسّس كأس قهوة ساخناً في الصباحات الباردة.
عند الظهر، لم يعد نقيق الدجاجات يعلو ولا أنينها وهي تبيض. ولم تسمع النملات صوت نقر الكتاكيت تبحث عن بذرة في الرمل تسبقها إليها العصافير المهاجرة كلّ صباح.
حتى أنه لم يعد يسمع جارَه الحطّاب وطَرقات مِعوله اللامع على سيقان السنديان، لم يلحظ هوَ ولا غيره كيف تنزف أصابعها ويغطّي الدمُ، كالطلاء، أظافرَها الناعمة.
لم يعد يشمّ رائحة الفحم يتوّجه إبريقُ الشاي بالمريمية. لا صوت فيروز بعد نشرة أخبار الثامنة صباحاً ولا عبد الباسط أيام الجمعة عادا يؤنسان الأشجار على الطريق الترابي.
لا ترقص صفحات الكتاب فوق الطاولة عندما يدخل الهواء الثمل غرفته.
انتهى كلُّ شيء.
صمتٌ يلتفُّ حوله الفراغ.
طائرٌ – لا عينين له ولا منقارَ ولا جناحين – هبطَ على البيت، حولّه إلى كومة رماد.
لم تكن هناك بذور على سطح البيت ولا ماء. من دون دعوة، هبط في غير موسم هجرة على العشّ الإسمنتيّ. تطاير الرماد والحجارة ككومة قشٍّ لسعتها الرياح الساخنة.
ها هو الآن يجلس على كومة من الصمت، يحاول كسره، يقرأ عالياً أسطورة طائر الفينيق، وشيئاً من كتابات جبران، لعلّ بيته ينفض الغبار عن أجنحته المتكسّرة.
- شاعر وكاتب فلسطيني من مواليد غزّة عام 1992، يكتب باللّغتين العربية والإنكليزية. أسّس عام 2017 “مكتبة إدوارد سعيد العامّة” في غزّة. نشر قصائده في مجلّات شعرية متخصّصة، وكان شاعراً زائراً في قسم الأدب المقارن بـ”جامعة هارفارد” الأميركية بين عامَيْ 2019 و2020. يصدر ديوانه الأول باللغة الإنكليزية عن دار نشر City Lights بسان فرنسيسكو، في نيسان/ إبريل المقبل، بعنوان “أشياء قد تجدها مخبّأةً في أُذني”.
مصعب أبو توهة
Comments are closed.