خالد لحمدي
تنبض ذاكرتي في شُقّة أكثر نوراً واتساعاً ، عابرة بي مضايق وزحامات عمري المتصدّع المنسرق.
ينبتر حينها عمراً من الروح وتقتطع أجزاء من العمر القابض على سنين التقوُس والانحناء.
تعبرني حالة قنوط مشوبة بومض متكاسل من الأمل .
لماذا أُفكّر هكذا . أتخوُّفاً من أن يمرُّ خريف عمري المتسم بالعجز والتصرّم دون جدوى , أم أنني تعبت , ولم أعد أملك القدرة على الكلام .؟
كل الأبواب والمنافذ شبه موصدة , وتلك الوجوه التي عهدتها تقف معي وتحادثني , غادرت أمكنتها ولم تعد تملك شيئاً سوى الجري والدوران في فلك الحياة وانشغالاتها القلقة .
كل هذه المتغيرات المفاجِئة ملأتني بشحنة لاتقاوم من الكلمات الملتهبة , جعلتني أكثر تشهّياً للحبر والإمساك بما تبقّى من ورق اكتسى بالصفرة وتخلّى عن بياضه ونقائه الوضيء .
كيف أشفى من وجعي وصمتي الاضطراري , الذي أوقعني القدر بداخله وليس لي القدرة على التمرّد أو مغادرة شرنقتي ذات الأسقف والجدران العالية .
ما أبأس هذه الأرض وضآلتها الشديدة , بعد أن كانت تغتسل بالفرح صارت تستجدي السعادة وهبات البهجة من أقاصٍ بعـيدة , في حين لم تبقَ سوى نتف من لذّة مشنوقة على ضفاف بحرٍ أكثر ملوحة ورطوبة , ومدى أكثر زرقة واتساعاً ، يلفّه تيار من التيه والغموض .
أو قدري الذي ألقى بي هنا , أم الظروف المحيطة جعلتني في وضع كهذا .؟
يجب أن أرى أين وكيف أقف , والأجدر بي أن أعقد مع البحر ميثاقاً وعهداً , في ظل المتغيّرات والأحداث المتلاحقة .
وقد صرت أشبه بمركب تتقاذفه الأمواج والرياح لم يدرك المرسى والوجهة الصائبة . تائهاً يبحث عن فنار يرشده نحو ضفافٍ أكثر سلامة وأماناً , وعلى كتفِهِ حقائب سفرٍ ملأى بالذكرى والتساؤلات العاتبة .
ترى ماذا يضمر البحر وهذا الأفق الموشّى بالتوجّس والفجيعة الكالحة .؟
لن أتقدّم البتّة , طالما لاتزال نوافذ التذكّر منفتحة , ومرايا البؤس كاشفة عن وجهها المملوء بتجاعيد الخوف والاستحالات القاتلة .
ليس هناك حلولٌ أو اختيارات , سوى الثبات والتوازن على تراب أرض بدت أكثر دوراناً واهتزازاً , كُسِرت خلالها الروح ولم يحقق الحب شيئاً من الانتصار .
أو هل هو خدعة أم أن العُشّاق عاقون وغير مخلصين .؟
موجعٌ للقلب والروح معاً , حين تغرق في عالم من القلق والتساؤل , باحثاً في الفراغ دون جدوى أو فائدة , بينما يعيش الآخرون حياتهم كيفما يشاؤون ويرغبون , ووحدك من يسعى خلف تلك العوالم التي تعيش في ذاكرتك . تراها كما ترغب و تحلم في مجتمع أغلق على نفسه جيداً , ولم يعد يكترث بما يحدث حوله , ويعيش الحياة كما وجدت ومثلما هي.
بعد كل هذا الألم والتعب أدركت متأخراً أنني كنت ولازلت العوبة قلب يحمل كثيراً من الانفعالات والعذابات القاتلة , ولم استطع مقاومة شططه واندفاعاته المتلاحقة . المتناثر قطعاً من الشوق و أوصالاً من الأحاسيس المشتعلة التي يصعب جمعها في كتلة واحدة .
لا أنكر أن البحر كان شاهداً ووسيطاً بيني وسنين اللهفة , وهو من أوقد حطب الغواية ولم تستطع أمواجه إطفاء شررها وسعيرها المندس في غرف روحي ودواخلي .
بعد كل تلك السنين المحمّلة بالوجع تبدّى لي وكأني سلكت سكة سفر طويلة , لم تبلغ بي نهاياتي المرجوّة , ولاتزال مرافئي بعيدة جداً , تلفُّها العتمة وخيوط الضباب .
لم أتساءل مسبقاً أين ستبلغ بي نهاياتي المحتمة , بل لم يدر بخلدي شيئاً ممّا تعرّضت له , ولم أفكر في مصادفات صادمة كهذه . كنت منجرفاً خلف تيار اللوعة دون وعي أو إرادة , وكأن شيئاً أشبه بالتيار المحاط بعاصفة شديدة , يلفُّني ويحيط بي من جميع الاتجاهات . أرتديت خلاله لباس الفقد وتدثرت باللذة الطافحة . كطفل وجد رغبته وحلمه , فذهب خلفهما بزهو وانتشاء .
إلى اللحظة لستُ قادراً على قتل في داخلي حب امرأة رائعة مثل شريفة , ومحال أن أخسر حلمي ورهاني , فإن فقدتهما لن أجدهما ثانية , وإن أضعتهما لن أستطيع إعادتهما وتعويضهما لاحقاً . فالإصابة بالحُب تجعل القلب يعيش الارتباك , ويمتلئ حياءً وتلعثماً حين يسمع صوت من يحب أويقف مواجهاً له . وقد يصاب بشلل مؤقّت يعطب الروح , ويذهب بالعقل والجسد في مناحٍ ومسالك لم يعهدها يوماً . في حين تجزم الروح بأحقيتها وتملُّكها ذلك الحلم المكتنز باللذة الطافحة , وتظل ترقبه باضطراب وقلق , ولاتدع أحداً يقترب منه أو ينظر إليه.
وحده العاشق من يمتلك الحق في الإمساك به والتمتّع برؤيته . مُتلبّساً بالصمت والتلعثم الذي ربما يذهب به نحو مزيدٍ من العقل , وقد ينحو به إلى كثيرٍ من الهُبلِ والجنون معاً.
من المنهزم و المنتصر إذاً .؟
كيف للكلمات القدرة والاستطاعة على الإجابة .؟
كيف للأحرف المنسدحة على أسطر مهتزّة وغير ثابتة أن تجيب على تساؤلات كهذه , في حين لاتملك القدرة في الدفاع عن نفسها , ولا تستطيع إكمال جملة واحدة تفي بالغرض وتشبع تلك الأحاسيس المتناثرة على جمر الشغف وحرائق التلظّي الغائرة .
عفواً حبيبتي .
أو كل هذه السنين ولم تبلغك شظايا أحرفي وكلماتي المتناثرة .؟
أإلى هذه الدرجة قد بلغ بالأبجدية العجز والعمى , وابتلت الأحرف بداء التلعثم والارتباكات المفاجئة .؟
أهو الزمن قد اختلف أم أن هناك شيئاً يجب أن يُقال ولم يُقل بعد.؟
عبثية العمر المنسرق من عصر أدرك المعنى وتجاهل مراثي الحزن الممجوجة بالرعب والتعب, لايزال يطلق صوته المصحوب بالتساؤل وحشرجات القهر و الشقاء .
_ أو سعيد حقاً .؟
_ أو ترى غير هذا .؟
_ لا.
_ إذاً نحن متساوون في الصدمات والإحباطات المتتابعة!
_ أو نستطيع أن نُشيّد من سقطاتنا حلماً وأملاً جديداً.؟
_ رُبّما.
_ إن استطعنا أن نمحو ما علق بالروح والذاكرة .!
_ قد يدعك ذلك في التخلّى عن زرقتك وصدقك وبهائك .
_ محال .
_ إذاً كلانا لايستطيع التنازل والتفريط بما لديه .
حتماً لايستطيع أحدنا وأد ذلك النور المتسربل فينا . ذلك الوهج الذي لم نكد أن نمسك به , فكيف ندعه في لحظة يغادرنا ويذهب بعيداً .؟!
أو يستطيع العُشّاق إحراق رسائل الشوق التي سُطّرت بالدمع وحبر الانتظار .؟
فالحب لايختزل في المتعة والرغبة العابرة , بل هو ذلك الشيء الذي يبحث عن العيش بأمان على تراب أرض تغرسه وطناً ممسكاً بالاخضرار والنماء .
صوت الشوق الهامس ينسكب في أذني . شلّالاً من الوله والأمنيات الحالمة.
فيخفق القلب اضطراباً وشغفاً , فتضخ أوردتي سيلاً من الدماء المندفنة في عمق الروح الوالهة للقاء.
هذا الحب القاتل والمميت معاً , الأكثر جدّية وصدقاً , في زمن وضرف كالذي نعيشه الآن. وحده الذي يجعلني أكثر صلابة وقوة .
في تحدٍّ ومقاومة انزلاقات زمني ومفاجآته المتواترة .
أليست الحياة هي القوة والمواجهة , كي نظفر ببعض الزهو وقليلاً من البهجة والسعادة .؟
لاشيء سوى الحب الذي لازال يجمع العُشّاق , ويُزيّن وجه هذه المدينة الموبوءة بالتناقضات الصادمة . وإن هو تخلَّى عنهم ستظل الخيبة تلاحق هذه الأرض ولن تغادرها يوماً.
من يدري ربما تنفتح تلك المضائق المغلقة , وتتقاسم مع العُشّاق ذلك النور العابر الأرواح والقلوب الوالهة.
ليس في الأمر شجاعةٌ أو ذكاء , فجميع العُشّاق متساوون في الحلم , وأمام الحقيقة الهاربة , وعلى الخيصة أن تستدرجهم ولاتدعهم يذهبون عنها . حينها لن يعــد باستطاعتها احتواءهم وإعادتهم إلى أحضانها مرة أخرى .
بعد هذا العمر من الحُب , لم أعد أرغب في الحصول على قُبلة وأمضي . أو غمزة ملتهبة تشعلني ثم تطفئني . أو ضحكة تُحلّق بالروح في فضاءات أكثر تحرّراً واتساعاً. لم أعد أكتفي بالحصول على أشياء كهذه . بل أرغب في هدم جدار الوحشة المنتصب بيننا . ولازلت مصرّاً على ردم الهوّة التي تباعد بين روحينا ، وأعيش في قعر روحك والتصق فيكِ بكاملي , ولا أفارقك أبداً . أوسـّدكِ ذراعي وأداعب خصلات شعرك المائل للحمرة الباهتة . أشاهدك لحظة غفوتك وصحيانك , أُمرّر أصابعي على وجنتيكِ , وأمتص شفتيك الطريتين. ذلك يقيني من التعرّض لحُمّى اللهفة , ويجعلني أكثر مناعة وقوة ضد أي صدمات قد تصادفني مستقبلاً .
أيها البحر.
أيتها الزرقة والمد المتسع .
أيتها الأمواج والأنواء والرياح والمراكب والسفن والأعاصير المتعاقبة .
فليقل كُلٌّ منكم ما يشاء .
ستظل الخيصة فينوس البوح , وملكة النور والفجر الوضيء , الذي ألقيت في بحرها شباكي, فقذفتني بهالة من الحب , وألبستني حياة وعمراً متلبّساً بالطهر لا يعرف المخاتلة .
ثورة عشقية انحرفت عن مسارها ووجهتها الصائبة . لاتزل تخطو بزهو ولم تستنفد أسلحتها وأدواتها المتعدّدة . ساعية بجدٍّ لاستعادة مجدها وخلودها المبارك .
تدفع الحُب بقوة نحو الحق ومسالك اليقين . فيهتف العُشّاق بإصرارٍ وتحدٍّ:
– إنّه وريثنا العابر بحار العنف والتعصّب والوجهات المتعدّدة .
ويضيف بعضهم بثقة :
– هو المناهض لكل التغيّرات الطقسية والتبدّلات المفاجئة .
أتفرّس في الأفق مرتلاً التسابيح , طائفاً بكعبة حلمي الخجلة الدامعة .
أجراس الشوق الكامد تقرع بداخلي . فتغمر الشمس ضحى الكون الغارق في عتم الاضطرابات المقلقة .
نوبة الحنين المنغرس في القلب , تتوغل بي في براثن المبهم فنسيت عذابات الروح اللاهبة .
صوت البحر والأمواج والسفن الراسية والمغادرة , ومراكب الصيد الصغيرة , وصراخ الصيادين وبعض البحارة , وأصوات مرتادي البحر وعُشّاق الشاطىء الغارقين في حوارات وأحاديث هامسة , جعلاني أمتطي سفني مبحراً في سيل من التساؤلات العاتبة :
– هل عُدتِ أخيراً .؟
– لم أذهب كي أعود .!
– وما يحدث لي .؟
– ذلك شأنك.
– أو لم تكوني قد …؟
– لم أفهم .
– غادرتني .!
– دعكَ من كل هذا , واخرج مما أنتَ بداخله .
– ماقصدكِ .؟
– أنتَ أدرا بذلك .
– أو هذا صوتُكِ .؟
– نعم .
– أفتقدته طويلاً .
– هاهو يعود إليك .
– لستُ مُصدّقاً .
مالذي يحدث بيني وذاتي , كيف يأتي هذا الطيف الغائب مُشعّاً كالنجوم .؟
أو جاء من ضلع الشوق أم جاءت به هواجسي ومفازات تعلّقي وولهي .؟
أدركت أنّي لازلت أمخر في بحار عذاباتي وفقدي , ولم يحن الوقت لأرى عيوناً أحببتها , لم أشبع منها ولم أعشق سواها. وددت اللحاق بها والسكنى جوارها . فاستوقفتني دروبي الشائكة المغلقة .
مساءٌ ينضح عذوبة وألقاً , أستشعره يطل من شرفتي , فرأيتني ممسكاً بالتاريخ والزمن المُطهّر من الزيف والإنقسامات الناتنة .
أفقٌ خالٍ من الدجل والارتداد الفكري والعصبوي . يهتف بصدق :
– أنتم أحرارٌ على تراب أرضكم الواسعة .
– كيف ذلك .؟
– أوضح أكثر .
– وددتُ .!
– ماذا .؟
– كيف لهما أن يلتقيان .؟
– دعهما يحددان ذلك .
– أو سيفشلان .؟
– لستُ أعلم .
صوت النور المشع بالفضيلة المسجاة على هضاب جرداء , يطوّق الأفق الغارق في الوهم والحلم المنقرض .
أحاول مغادرة مكاني فلم أستطع , وظللتُ منكفئاً بجانب شباك غرفتي , أرقب ومض النجوم والأضواء المنعكسة على مياه الخور والبحر والمنازل والشوارع المكتّضة بالبشر .
لا أريد شيئاً أن يُعكّر صفوي ومزاجي . ولستُ مهيّأ للبحث في عُتم الخلل الكوني الذي عبث بالوقت وغيّر ملامح الزمن السابح في اللاوعي والضلالة العابثة .
سادرٌ في فضاءات اللحظة وولادة الحب الأولى ، موغلاً في خيوط ذلك الصباح الشمسي الآسر . وعلى جنباتنا فراشات النور المغادرة سريرها الغسقي المغتسل بالضوء .
أوشوش في الأذن اليمنى لشريفة وهي تحاول إعادة ترتيب خمارها الساعي للتفسّخ والتمرّد .
– من للغريب التائه .؟
ردّت بشيء من التوجّس :
– كُلّنا غرباء .
قلت جازماً :
– بل بعضنا .
قاطعتني وومض خاطف يملأ عينيها:
– أو تعي ماقلت .؟
– بلى .
وأضفت موضحاً :
– لم أرد إزعاجك .
قالت بدهشة :
– أنتَ لم تزعجني .
وأضافت بشيء من الفرح الطافح .
– سررتُ كثيراً.
– بماذا .؟
– بِكَ .
أرسلت نظراتي صوب عينيها الصغيرتين , فنظرت نحوي بارتباك وصمتٍ ثم أرسلت نظراتها نحو الأرض مُتلبّسة بالحياء .
– شريفة ماذا تقولين .؟
– أعلم أن هذ الصمت يختبئ خلفه شيئٌ مبهم .
– ولماذا تسأل .؟
– فضول يقرظ القلب لاكتشاف ماتخفي دواخلك .
– هذا فقط أم هناك شيء آخر .؟
– أنتِ تعلمين دواخلي جيداً .
– ليس لهذا الحد من الادراك والمعرفة .
– أمتاكدةً من ذلك .؟
– يعني !
– الله .
– ماأروع ابتسامتك !
– ماقصة ابتسامتي معك .
– هي الحياة .
– أيممممن !
– بل أكثر من ذلك !
– ياااااااه من أين لكَ كل هذه الكلمات الآسرة .؟
– من عينيك وصوتك وابتسامتك وقوامك وووو..!
– وماذا .؟
– من جسدك اللاهب بالإناقة والإغراء.
– لن أقوى على مجاراتك في الكلام .
– وأنا لا أملك المقدرة على بُعدكِ وغيابك .
– أيمن .
– نعم .
– اطمئن .
– لم أفهم .
– إنّي لكَ .
– قلتِيها وسمعتها منك مراراً .
– إذاً لِمَ كل هذا التخوّف والقلق .
– ثمّة شيء لا أتمنّى حدوثه .
– ماهو .؟
– أشعر .!
– بماذا ..؟
– ماهذا الصمت .
– أيمن ليست عادتك .
– حلم أتمنّى أن لا يكون صحيحاً .
– ماهو .؟
– ثمّة من سيمتلكك غيري .
– أهااااا .
– ثق جيداً أنني مُلكك وحدك .
– أخاف من القادم كثيراً .
– لاتخف .
– كيف لروحي الاستطاعة على التجديف داخل بحرك ومياهك المتقلّبة الفصول .؟
– هههه أنتَ أدرا بذلك .
– لا أريد أن أثقلك بمخاوفي وقلقي بينما أسعى جاهداً لأحتفظ بكِ مابقي من العمر .
– لقد تغيّرت حولنا كثيراً من الأشياء , وصارت حياتنا مثقلة بالهموم والتعب , ولم يعد القلب يحتمل الصدمات المفاجئة .
– عديني فقط أن نعيش ونموت معاً.
– كااااه.
– أو تحبينني .؟
– أو تشك في شيء كهذا .؟!
سمعتها مراراً عدة , ولازلت إلى الآن أسمعها .
كل ما أريده منك هو أن تلفّي ذراعيكِ وتحضنيني بلهفة وشدّة , وتشبكي يديكِ بعضها بعضاً وتشُدّي بكل ما أوتيتِ من قوة على ظهري , كي أزيد التصاقاً بِكِ , وأشعر بأنفاسك تلفحني , وأغوص في أغوار نهديك وصدرك . أحس نبضك يختلط بنبضي , وأشعر بدفئك يملؤني بكاملي , وأتنسم رائحة فمك وشعرك وبقايا عطرك الليلكي .
كل هذا سيزيدنا رغبة في الإمساك والحفاظ على بقايا أشواقنا الهاربة .. ثقي أننا لن نخسر شيئاً , بل سنزداد عمراً وسنربح ما سرقته منّا الحياة.
– أو فقدت حياءك أم تلبّسك شيء من الجنون والهوس.؟
– بل نسيت حيائي وخجلي .
مذ عرفتُكِ في ذلك الصباح الاستثنائي وأنا مُثقلٌ بذاكرة لم تستطع أن تنسى تلك اللحظة الخالدة , التي أطبقت خلالها على حُبٍّ سكن شغاف القلب , ولم يعد باستطاعته الهرب أو المغادرة . وقد أوصدتَ كل المنافذ والأبواب بوجهه , وطوّحت بالمفتاح في عُمق اليم .
بعد هذه السنين وهذا العمر لم نعد بحاجة للتلصص والاختباء , فقد بارك العُشّاق جميعاً حُبّاً علِقَ برحم الصدفة , وصار أكثر أناقة وبهاء.
ثقي أنني لن أدعكِ تذهبين عنّي , ولن أبرح أرضاً نقشتُ في سمائها أسمك , بحبر الروح ومداد الزمن .
هذه الأرض لم تختارني , بل أنا من أخترتها وسلكت دربي تجاهها , فملأتني حُبّاً ودفئاً , وجعلتني أعيش كما أريد .
أرضٌ ناعمة وطريّة , ووجوه أهلها أكثر بشاشة وتفتّحاً , ومن الاستحالة أن يغادرها من وطأت قدماه ترابها , وإن ذهبَ سيعود حتماً ولن يتركها مرة أخرى.
أوتعلمين كم عدد السنين التي انصرمت من عمرنا , وكم هي التي سنحياها ونعيشها.؟
أولازال في العمر متسع لمزيدٍ من الوحشة والفراق .؟
إنّي متعبٌ كثيراً ويداخلني السأم والوهن , ولستُ قادراً على تحمّل حرائق اللوعة والشجن , وقد صرت أقف على حافة جُرفٍ مميت , ويسكنني ذعرٌ مُخيفٌ , رُبّما لأنّي صرت لا أحتمل هذا البُعــد القاتل الذي بيدك إنهاؤه وتغيير مسار حياتنا إلى الأفضل .
لقد أدركت متأخراً خطورة اللهفة ووجع الغياب , وعليكِ أن تعلمي سبب وجعي , وتبادري ببتر ذلك السبب المانع لقاءنا.
لماذا أرى في عينيكِ هذا الصمت والتعجّب .؟
لِمَ هذهِ التنهيدة الطويلة .؟
لاتعضّي على شفتيكِ ودعيها كما هي!
أيمن .
مرحباااا.
ما كل هذا الحب .؟
سأخبرك بشيء .
ماهو .؟
من ينسى ويهجر ويبيع ويخون ويكره ويقتل سيظل يرتكب كثيراً من الحماقات , ولن يردعه شعورٌ أو يوقفه حُبٌّ عن ممارساته القاسية , وسيظل يمارس طغيانه وبغيه ولن يتغيّر أبداً.
لم أفهم .
تذكّري جيداً أنّني لا أملك مرافئاً أو ضِفافاً آوي إليها . فمينائي الوحيد هو أنتِ . فلتمُدّي لي خيطاً أبلغ به ضفاف حلمي وسدرة منتهاي .
أكثر من لحظة يائسة خامرتني فكرة أن أقوم بخطفك وأذهب بِكِ بعيداً , ثم أرجع عن تلك الفكرة الخائبة.
أو ستوافقينني في ذلك .؟
لا أظن أن يبلغ بك هُبلك في مجاراتي ومشاركتي فعلة كهذه . أعلم أنك ستفكرين بالناس وأقاويلهم حين يبلغهم خبرٌ كهذا .
أتعلمين …؟
مااااذا .؟
قيل أن الحب كالبحر خجولٌ جداً , ويستحي أن ينكشف سرّه أمام السفن والمراكب العابرة وتظل بداخله مضغة من الوجد نائمة على سرير التمنّي . وعند أول شرارة ينفجر براكيناً من الحرائق لاتستطيع إطفاءها بحار الأرض وعيون السماء.
لا أدري ما يحدث لي .
أو كأنني أتدرب على إعداد القهوة , أو كمن يعدها للمرّة الأولى .؟
ربما اتساع المطبخ جعلني أسهو قليلاً , ما جعلها تسيح على الموقد وينسكب بعضها .
سأعد لي كأساً أخر , وسأنتظر أن يبلغ درجة غليانه القصوى .
لستُ مرتبطاً بأية مواعيد ولا هناك ما يستحثني لقضاء حاجة أو مهمة بعينها . وليس لدي الرغبة في الخروج ومغادرة شقّتي . أشعر وكأنني إذا خرجت لن أرجع ثانية. لستُ أدري لِمَ يساورني شعور كهذا .؟!
لاتزال تتسابق أنفاسي وقلبي يخفق بعنف وشدّة .
لا أعشق السلالم ولا أطيق صعودها .
كنت أرغب في الحصول على شقّة في الدور الأول ولم أستطع ذلك ، وقد أضحت كل شقق العمارة مستأجرة ولم يبقَ سوى شقّة الدور الثالث .
لم أهتم حينها بالدرج وطغى فرحي بإيجاد سكن بعد أشهر من البحث والعناء .
شدّني شكل العمارة ونظافتها وطرازها الجميل الأنيق , وقد بدت مغايرة للمباني المحيطة بها .
كانت سعادتي كبيرة حين رأيتها منتصبة على ربوة عالية ، ما جعلها تزيد ارتفاعاً عن كل المنازل المجاورة حولها .
شعرت بلذة وانتشاء وأنا أقف عند مدخلها , ملقياً نظراتي صوب المنازل المطلّةَ على الشارع الإسفلتي المكتظ بالصخب والبشر .
لست أدري لِمَ صار الازدحام وكثرة الأضواء تشعرني بالسأم والاختناق , وصرت أبحث عن السكينة والهدوء , لأعيش خلالهما ساعات في القراءة والتأمل , والبحث عن قصائدي التي كتبتها في زمن مضى , وقد وجدت أغلبها قد أختفت أحرفها على ورق مغبر السطور والملامح .
ولجت غرفتي بخطى مثقلة متعبة . ملقياً بجسدي المنهك على الأرض . مسنداً ظهري على الجدار بخمولٍ وتكاسلٍ شديدين .
يختلط عرق جسدي بروائح الطلاء المنبعثة من كل أرجاء الشُقّة .
أُفكّر .
لستُ مصدّقاً .
كل ما أردته هاهو يتحقق أمامي .
لا أريد أن أعر الأمر اهتماماً أكثر , كي لا يغادرني حلمي . فثمّة ما هو أهم من أمر كهذا. أن أمسك بالحلم وأعيش الواقع والحقيقة .
أعلم أنّني لن أغير واقعي المضمّخ بالمرارة والانتكاسات الجارحة . وسيبقى العُشّاق أول الضحايا الذين يحصدون الجزاء . ووحدهم من سيطولهم التشرّد والإهانات المتلاحقة . وقد تسكن الحسرة أعماق جيل لايستطيع التجرؤ والإفصاح عمّا يموج في أغوار دواخله . وسيعيش الحب القهر والتشظّي ، مخلّفاً وراءه أعداداً هائلة من الضحايا الساكنة الأقبية وساحات الوحشة والاغتراب.
واقع يمزّق أحشاءه العنف والتنكّر , لايبرح أن يطلق مآتم زيفه ، متوسداً ضفاف الخديعة وعصر التدجين والِخصاء.
وحدهم العُشّاق من يملكون الحلول البديلة , كي لا تتلقّفهم العزلة والظلال الموحشة . ووحدهم من سيختارون دروبهم دون تصادم مع الجدل والمصالح الخاسرة .
لحظة مشبعة بالانبهار والزهو , سبحتُ خلالها ولم أستفق إلاّ وبيدي صورة المكلا . التي كانت مندسّة بين أغراضي التي جلبتها من غرفتي التي غادرتها تواً . أهدانيها صديقي الفنان عبدالله سلومه . عبّودي . قبل مغادرته الخيصة بأيامٍ قلائل إلى بلد شقيق . وبقدر فرحي بروعتها وجمالها الآسر , إمتلأت روحي غيظاً وسأماً حين لمحت يومها على وجهه حزناً وألماً عميقين . بعد أن قال لي بوجومٍ كامد :
– سأذهب .
وأردف بصوت متقطّع :
– رُبّما أجد هناك الرعاية والاهتمام.
قلت باضطراب وتخوّف :
– ومن لعائلتك .؟
رد بثقةٍ وتروٍّ :
– لهم واحد أحد.
نظرت نحو عينيه الغائرتين . فتلاقت نظراتنا في موجةٍ من الصمت والتأمل .
عرفت أنني لن أغيّر شيئاً و لن أستطع إثناءه عن تنفيذ فكرته . ورحل دون وداع أحدٍ سوى عائلته المفجوعة برحيله المفاجئ .. لم أستطع الذهاب للتودّع منه , حتى لا أشعره بوجعي وحرقتي .
أعرف بيته وأطفاله وعائلته جميعاً .
كيف إلى الآن لم أسأل عنهم واستطلع أخبارهم .؟
ليس لدي عذر أو تبرير مقنع يجعلني أتركهم كل هذه الفترة المنصرمة .
أو نسيتهم حقّاً .؟
أم عدم الرغبة في التذكّر , كي لا ألحظ بيت شريفة الذي لايفصله عن بيتهم سوى منازل لاتتعدى أصابع يدي .؟
شكراً للأدب الذي وضعني في هذه المحنة التي أربكتني كثيراً وملأتني جنوناً وخسارات فادحة.
شكراً لامرأة لاتملك سوى صوت آسر وبعض من الفتنة إذ وضعتني بين برزخ الموت والحياة.
شكراً للصدفة التي ألقت بي في رحم النور فأستُكثر علي أن أعيش كما حلمت واشتهيت .
يجب أن أنسى ما يثير في داخلي الحزن والألم كي أعيش بطمأنينة وسلام . فلم يعد الوقت مثل ذي مضى ولم تعد الأيام كسابق عهدها . فقد تبدّلت الأشياء وتغيّرت ملامح المدينة . وصار القادم محمّلاً بالمفاجآت الصعبة والخطيرة .
فتحت جهاز التكييف لأنام قليلاً فلم أستطع ذلك . إذ تأتيني دمدمة السيارات الكبيرة وأبواقها المرتفعة ، يصحبها أصوات الباعة المارين على الأرصفة .
– اقرأ حادثة غرق السفينة .
وصوت آخر يشتد ويعلو بكلمات شاتمة وبذيئة محاولاً إبعاد زميله ليحتل مكانه .
– اذهب من هنا ياابن ال …!
يعود الصوت الأول دون اكتراثٍ :
– اقرأ تلوّث البحر بالتسرّبات النفطية .
ينتزعني جرس الباب من غفوتي التي لم أنعم بها قليلاً . إذ فتحته عن نصفه فرأيت خلفه شاباً صغيراً بادرني للتو :
– أتريد شيئاً .؟
نظرت نحوه باندهاش وتوجّس .
فأردف قائلاً :
أنا عامل البقالة التي تقع أسفل العمارة . كنتُّ ماراً على بعض الشقق التي آتي لسكانها بالخبز كل يوم . وفي طريقي قلت لنفسي ربما تحتاج شيئاً .
انشددت لفطنته وذكائه , فقلت له , شكراً إذا احتجت شيئاً سأخبرك .
ثم أغلقت بابي بعد أن ذهب هابطاً الدرج نحو الأسفل .
عُدتُ نحو غرفتي وفي الروح تساؤلات جمة وفي الذاكرة ألف تساؤل وذكرى .
– أو هذه هي المدينة التي عرفتها قبل أكثر من ثلاثين عاماً .؟
كان يضرب البحر بيوتها ولا يفصله عنها أيُّ عائق , وظلّت تعانقه وتهاتفه كل الأوقات , وسعيدة بضربات أمواجه التي لاتهدأ ولا تكف.
لقد ذهب وتلاشى ذلك الزمن ولم يبقَ منه إلا أطيافٌ مُموّهة وذكريات باهته تسكن ذاكرتي التي لم تنسَ حلماً كان هنا.
هذه الكلمات ظلّت عمراً كاملاً تعيش في داخلي , ولم أفكّر يوماً بنشرها . ولكن شعرت بأن لا جدوى من محاولة إخفائها . فرسائل العُشّاق عادة ما تُبعث لهم عبر البريد , أو تُترك أوراقها تطير وتذهب نحو من خصصناهم بأحرفها التي صارت مُثقلة بالمعنى وعاجزة على إيصال ما يغور في القلب من ألمٍ وتعب . ولم تكن ( صمت الأشرعة ) سوى إحداهن . التي كُتِبت بحبر الذكرى والحياة الموشومة بعصر من البهجة وعمرٍ من الزهو والفرح .
لستُ أدري ماذا يعيدني لتذكُرّها الآن .
بعد عشرة سنين من الجرح والحبر .
أقول مؤكداً .
لقد جاء زمن مغاير تبدّلت خلاله الأشياء وخرجت الأمور عن صوابها ومسارها الصحيحين.
بل تغيّرت الألوان الزاهية وأفل ذلك النور المشع وتبدّل اللون البنفسجي المليء بالدهشة وانبثاقات الجنون والاشتهاء .
لم يعد هنالك مايخيفني , بعد أن طوّحت هذه الأرض بعفّتها وطهرها في عمق اليم , وتنازلت عن القيم والمُثل النبيلة , التي كانت ترفعها وترددها عالياً .
أنا واحد من الملايين العابرين والمقيمين هنا . ما يميزني عنهم أنني أعرف جيداً ماذا حدث.
لقد تغيّرت الضروف والمسالك , وبدت الأمور والحسابات التي تخيّلتها وحسبتها شبه خاطئة , بل ليست دقيقة وغير صائبة .
لقد أصبح الشياطين حُلفاء للملائكة . وصاروا السُرّاق والقتلة حراس الفضيلة ورعاة الحق واليقين .
أو يخادعني قلبي أم عيناي لم يعودا يبصران جيداً .؟
لم يكن اليوم مزاج البحر جيداً , مع أن وجه الخيصة تبدّى أكثر روعةً وجمالاً .
لذلك سأكتب .
فلايزال الحب نائماً على وسائد الهجس والتذكّر ، متأملاً حياة ونهايات سعيدة .
أعددت لي كأساً آخر من القهوة , ووقفت هذه المرّة بجانب الموقد إلى أن انتهت من الغليان.
أتكأتُ بكوعي على متكأ صغير داخل غرفة الضيوف بعد أن وضعت فنجان القهوة أمامي. مذاقه مرٌّ كأيامنا المشتعلة بالمرارة والتعب .
لن أعود ثانية إلى المطبخ لجلب علبة السكّر .
الخمول والتعب يملآنني .
رشفةً أخرى ستعيد لي همّتي ونشاطي .
إنّها أمرُّ من ذي قبلها .
وإن تجمعّت في قهوتي مرارة العالم بأكمله ، سأكملها ولن أبرح فنجاني إلاّ مفرغاً .
ألا يوجد هنا من يقرأ لي الفنجان ويستقرئ طالعي .؟
لازال الفنجان في منتصفه ولم يكتمل بعد .
نظرت بإمعان في داخله فلم أرَ شيئاً مما يلحظه قارئي فنجان القهوة بعد الانتهاء من شُربِهِ.
ترى بماذا سيحكي فنجاني .؟
لاعلي في ذلك .
سأفتح التلفاز طالما لايزال التيار الكهربائي موصولاً قبل أن ينقطع ويغيب عنّا ساعات طوال.
كل القنوات الفضائية تشابه بعضها بعضاً .
لاشيء سوى أخبار القتل والدمار والموت والجوع والفيضانات والأمطار والرياح والأعاصير والزلازل والأوبئة المتعدّدة .
كيف سأمرُّ على هذا الكم الهائل من القنوات التلفزيونية المشحون بها جهاز تلفازي الإلكتروني .؟
– يا الللله .!
– ماهذه القناة التي أشاهدها للمرة الأولى .؟
تتحدّث المذيعة بلغة عربية سلسة وصحيحة , تخالطها ضحكات أثناء محادثتها مع ضيفها الجالس مواجهاً لها .
حلوة وناعمة مثل وردة مغسولة بالمطر والندى .
قالت بصوت يقطر ثقةً وأتزاناً , بعد أن أخذت رشفة من كأس الماء الذي بيدها ثم وضعته على الطاولة المنتصبة بينهما .
– مبروك الجائزة.
ثم أردفت مقاطعة ضيفها:
– هلاَّ تسمعنا الأغنية التي نلت من خلالها تلك الجائزة.
عاد إلى الخلف قليلاً مستنداً على كرسي بدأ أكثر جمالاً وأناقةً . محتضناً آلة العود بحبٍّ وتمكُّن .
ما أروع عوده المنقوش حوافه بالزخارف الدائرية الموشّاة بلون يشبه الذهب . وقد كُتِبَ في وسط الدائرة الكبيرة التي في المنتصف أسمه بعناية ودقّة .
إنّه عبّودي .! صديقي الفنان عبدالله سلومه الذي غادر الخيصة قبل وقت ليس ببعيد.
أمعنت النظر جيداً .
نعم . إنّه هو .!
وبإصغاء شديد رحت مستمعاً لصوته .
بدأ يسكب التقاسيم كالمطر .
أنشددت إلى عوده الناطق بالشجن .
كمن يسمع عوداً للمرّة الأولى .
اقتربت أكثر إلى أن صرت مواجهاً لجهاز التلفاز .
بدأ يُغنّى بصوتٍ عذب ، ما جعلني أُغنّي وأردّد معه :
مشتاق للخيصه وازدادت الأشواق
والقلب من بُعــد المحبّين قط ما لاق
حد با يذكّرهم أو با يخبّرهم
بأنني عنهم والله ما استغنيت
لاتقول ياقلبي بعد الجفاء ياليت
ياريتني ياطــير في الجـــو مثلك طــــير
باعود للأحباب حالاً بلا تأخير
ياليتني أقدر أرجع ولا اتأخر
عنّدي أماكنهم جنتي هي والبيت
لاتقول ياقلبي بعـــد الجفاء ياليت
البُعــد مهمـــــــا طـــال ما بيــــننا أو زاد
بالوصل باننسى المتاعب مع الأبعاد
والنار با تخمد والقلب با يبرد
ياشوق طمّنهم لا شفتهم ورأيت
لاتقول ياقلبي بعـــــد الجفاء ياليت
ثوانٍ مضت كالحلم كنت خلالها أكثر ذهولاً وانشداداً , ولم أستفق إلاّ بعد أن أكمل الكوبليه الأول من القصيدة وتم تكملة بقيّة الأغنية على مسرح بدا أكثر اتساعاً وحضوراً وقف عبدالله وحيداً على ذلك المسرح , تصاحبه فرقة موسيقية يرتدي أعضاؤها ملابساً موحّدة . يجلسون في المساحة الفاصلة بين الجمهور والمسرح .
ياااااه ياصديقي .
لقد وصلت لمَا تحلم وحقّقت ما تصبو إليه .
إنّنا نتشرّف بِكَ جميعاً ونفتخر بصوت عبقري مثلك.
لايزال وقع المفاجأة مسيطراً على مداركي وحواسي ، أنا الذي لم أكن مهيأ لمصادفة كهذه , بل لم أتوقّع مشهداً كالذي شاهدته الآن .
وكانت مفاجأتي أشدَّ وأعظم حين سمعت قصيدتي التي أهديتها لصوتك قبل عمرٍ من الزمن.
ترى ماذا جعلك تختار هذه القصيدة .؟
أهو الحنين للأرض أم لسبب آخر لايعلمه سواك .؟
الآن سيعترف بك الجميع .
أولئك الذين كانوا لايعيرون صوتك اهتماماً ولا ينظرون لمن هم مثلك .
هكذا هي أوطاننا وتلك سمة الأرض التي أحببتها.
تطمرك بسحب من المقت والألم . ويُنفّرك أهلها وقد يوصمك البعض بصفات لم تكن فيك يوماً .
إنّها الأنانية ياصديقي.
دع لهم كبرياءهم وزيفهم ولتبقَ متشبّثاً ببهائك وصوتك الساحر النقي .
لن تخسر شيئاً وهم الخاسرون .
ووحدك من أختصر الزمن والمسافات وقطع مع القادم عهداً ناصعاً ومضيئاً .
إنّ الحياة كوابيس وأحلام فاترة , وذو السعد من ظفر ببعض الأمنيات والأحلام المؤجّلة .
في الوقت الذي يغادر فيه الكثيرون هذه الأرض الطيّبة . تزداد روحي شغفاً وتعلُّقاً بترابها .
أو لأنّي مهووس بحبّها ولم أشفَ منه بعد , أم أن خساراتي المتلاحقة أكسبتني قناعةً وارتضاء بالواقع المفترض .؟
لم يعد يهمني شيئٌ كهذا .
ما يخيفني هو أن أجد نفسي يوماً أتفاوض مع الزيف على طاولة واحدة . ليس لشيء . فقط كي أحفظ للعُشّاق كراماتهم المسفوحة , وتجنّباً لإراقة مزيدٍ من انفعالاتهم وأحاسيسهم الدافئة .
لم يكن لهذه الأرض ذنباً ولم تقترف إثماً أو خطيئة , ورفضت مراراً تسليم أمورها وشؤونها للآخرين . فتعرّضت لعصى الخروج عن صراط الوهم ووليمة الخرافة .
وذات فجرٍ ضاج بمآتم الموت ودمدمة الفواتح القاتلة . صرخت عالياً محاولة الذود عن حياضها المُنتهك .
فتعالت صلوات الإجتياح المباغت , مدجّجة بالدجل والأقنعة المخاتلة .
لم تكن تملك من أمرها شيئاً . واكتفت بالتراجع والتنازلات الخاسرة ، وظلّت تلهج بالهزيمة والأسئلة المتصدّعة .
تومئ كالناهضة من فراشها .
كالومض المشع من شرفات المعنى والإستدارات البديلة .
فيغمر الزبد المدى البحري , مُقبّلاً شفاه اليابسة المأخوذة بالمستقبل والتحدّيات القادمة .
يهجس البحر بهزوٍ وتندّرٍ .
– أو لاتزل تحتفل بميلادك المرتّق باللذة الغائبة .؟
ضجّت كلماته بعنفٍ داخل أغوار نفسي , فقلت بإشمئزاز وقرف :
– لازلتُ كذلك .
واستطردت بثقة مفرطة :
– لقد ولد الحب من رحم اللحظة ، ويجب أن نظل مهيأين لارتعاشاته وارتطاماته الصادمة.
– أو لن يتغيّر رأيك يوماً .
– أبداً .
– منطق سخيف .
– ماذا تعني .؟
– ستفهم لاحقاً .
– إنّني أفهم .
وأعرف كنه مفردات زمني المختطف . القابع خلف أبواب التملّق والمدارات الخائفة .
– أسمعك جيداً .
– أو لم تكن تسمعني كل هذا الوقت .
– بلى .
موجتان كبيرتان مرّتا أمامي ، يتضاحكن بإغراء وتمايل .
قلت بصوت واثق :
– هكذا يكون الحب .
ورحت أخطو في ظلال من الهجس اللاهب ، ودواخلي تنز وجعاً وانكساراً .
تجيئني فجأة وشوشات تخالط همساً:
– هُنا حدائق الجنّة التي لاتعرف الفناء .
مضيفةً بثقة مفرطة:
– لا تملّقاً أو كذباً بعد اليوم .
ما جعلني أهجس بذعر :
عاهدتك على الصدق وها أنا أكشف لكِ الحقيقة كاملة .
وأضفت مُذّكِراً :
– لاتنسي ما وعدتني به ذات يوم , كي أظل أصدق عاشقاً لم يتخلّى عمّن يحب ولازال مصرّاً على نيل حقوقه كاملة .
لازلت منتظراً جواباً يصلني بعد لهفة وغياب .
أكتبي دون خوف أو تردّد , فالزمن يبدو صحواً أكثر من ذي وقت مضى .
وثقي أن العُشّاق سيتحدّثون طويلاً دون أن يستطيعوا اكتشاف سرّ العلاقة التي جمعتنا . وقد يكتشفون متأخرين أنّهم وحدهم من تصيبهم الخسائر ، وأكثر عرضة للكآبات والاضطرابات القاتلة .
أو ما نعيشه كذبة أم نحن الكاذبون .؟
صرخة خرسى تجز شغاف دواخلي.
لن تتحمّل الروح صوت صراخي ، طالما الأقربون للقلب نفضوا أرواحهم وذهبوا بعيداً . مخلّفين وراءهم نثار الخيبة وتكسُّرات الحقيقة الصادمة .
لكل نزفٍ مبتدأ وخاتمة .
ولم أعد أدري كيف هي نهايات نزفي ، وخاتمة درب لم تتضح له أي نهاية .
أستطيع اليوم منحي قدراً من الزهو ولو ببعض الكذب على النفس .
أيّها النور أعرني بعضك لأمسك بالتأملات المستحيلة .
حتفي المصبوغ بالدهشة والفرح يقف بي على ضفاف البهجة المرتقبة .
جميع أشيائي تشاركني فرحي ولحظاتي الراعشة بالزهو والخلاص .
وقفت في المنتصف بحيطة وحذر.
وبين لحظة الإصغاء والتيقّن وتفسّخ الكلمات الخارجة من العلائق الثابتة .
جلس الحبر يوثّق شهادة التمزّق خيفة أن يعلن النور الإرتكاسة أو الهرب والانسحاب . وصوناً لميثاق النفس الملأى بجيوش الخوف والامتعاض .
لا خوف من القادم البتّة , بل من الواقع الموبوء بالتوحّش والتهم المطلقة .
ماذا سيصنع الشوق .؟
ماذا سيقول للذين يلوّنون الأفق بالدجل والخرافة .؟
متى تستطيع الخيصة أن تقول كفى . من أجل قلوب لاتزال تنسج أعشاشاً للفجر دون أن تنبت لها أجنحة .
وإنّ أصدق الحُب . ذلك الذي لايغادر القلب ويجعل القلم يرعف صدقاً دون أي تخوّف أو حياء.
لذلك لن يستطيع أحد يوماً أن يوقف عاشقاً يجوب شوارع الخيصة مُنادياً بأسم من يعشق أو يحب .
قد تكون لوثة جنون عابرة , أو رُبّما بداية النهاية المحتّمة .
لا حلولاً أو بدائلاً تُرتجى ، ووحدهم العُشّاق من يصنعون مصائرهم كما شاءوا وأرادوا , متجاهلين حصارهم وصفرة الأحاديث الباردة .
كل شيء بدا يذهب نحو التلاشي ، واستسلمت الروح للسكينة والهدوء .
أريد أن أهمد قليلاً .
تعبت حقاً ولاتزل الصالة ممتلئة بالكراتين والأغراض غير المرتّبة .
أطرقت جيداً.
ثمّة أمر حاسم أنجزته وإن لم يكن بعضه في قبضة يدي .
سعيدٌ بما حقّقتُ وما قد وصلت إليه .
ووحده القلب من يدرك جذوة الشوق حين تبلغ ذروة سعيرها واشتعالها . وتملأ الروح بالحلم والأمنيات المؤجّلة.
أيها الشوق الهارب .
هل تدرك ما تموج به دواخلي .؟
ثق جيداً أن السنين لم تغيّر منّي شيئاً , وإن تداخلت الدروب بعضها بعضاً , وصارت غامضة ومبهمة .
أيها الشوق الغائب .
هل تعي مرض اللهفة وجنون الصبر والانتظار .؟
شريفة .
أو شروووفتي .
هكذا يحلو لي أن أخاطبك دائماً .
بل أكثر ماتحب أن تدعوك به لساني وتفرحين وتهلّلين بذلك.
شررروفتي .
لازلت أكتبُ لكِ بشغفٍ وتوجّع .
ليس عشقاً للكتابة ، بل ترقب حلم ووعداً لم يجيء .
فالشوق لعنة الروح وجمر الجسد ، الذي لا يسمع النصح ولايعرف الاكتفاء .
ولو لم أكن منشغلاً بتهيئة البيت وترتيبه ، لكنت هاتفتك . وإن لم تجيبي . لجئتك جرياً دون خجل أو تردد.
لا أعرف الكذب , مثلما أنتِ لا تكذبين .
وإن هو تملكني الملل و التعب سأستريح قليلاً وسأعاود نشاطي ثانية .
أتحسّس المكان وسحره المتناثر حولي ممتلئ بالتساؤلات الطافحة بالرضا:
– أو سأعيش هنا مابقي من العمر كما حلمت ذات يوم .؟
لم أعد أصغي للإجابات التي انتظرتها عمراً من الوقت ، طالما غادرتني تلك الإيماءات والمخاوف المستفزّة .
لقد حفظت ماحملته من تباينات وتناقضات سمجة ، وبنيت في الروح وطناً من الصبر وقصوراً من الكلمات المستهلكة .
– أو تدري أيها القلب ما معنى عمراً من الصبر والتطلعاّت الهاربة .؟
هو أن تأبى ارتداء وجه لايشبهك , وتظل محتفظاً بملامحك ولاتدعها تغادرك لحظة .
وترفض أن تحيا بذات لا تمت لك بصلة . وتسعى جاهداً لتعيش كما أنتَ على أرض صلبة وثابتة دون أن تدع عزيمتك تغادرك كي يستمر دفق الحياة بداخلك .
لك أن تبكي بصوت خافت للتخلّص ممّا قد يشعرك بالمرارة والتعب .
لا كبيرٌ أمام البكاء .
يحدث أن تذرف أعيننا الدمع لحظة امتلائنا بالحزن والفرح معاً .
ليس عيباً أو إثماً حين يحدث لنا شيئاً كهذا .
فالحُب يمقت التحايل ولايعرف المراوغة . والعاشق الحق من يجعل الشوق يخطو به نحو النور ومسالك اليقين .وإن ظلَّ يشعر أنّه لازال مقصّراً ولم يفِ الحب بعض ما يستحق .
جذوة الشوق تشعلني اصراراً وعزيمةً .
تؤثّث اللحظة بمزيد من النضج والدعاء . وتغمرَّ الشُقّة بهالة من التأمل والارتباك .
أستشعر نبضها في غرف القلب الطافئ بالألق والابتهاج.
زمنٌ يتراءى أمامي , وعمر أشف يقف متعثّراً بحاضري ولحظات صمتي .
يملؤني حنيناً وتذكّر تفاصيل أكثر تماهياً وامتلاء .
يجيئني صوت ناصح ومحذّرٍ :
– فلتكن أكثر نضجاً وتفتُّحاً .
ويضيف مستدركاً :
لاتخف ذلك الضباب المتكاثف الذي ما برح أن يطوّق سماء المدينة .
فلاتزال الشوارع ضاجة بالصخب ولايزال الناس يخطون على حواف الشارع الإسفلتي . ولازالت السيارات المسرعة تمخر الطرقات ولم يغادرها رُكّابها وسائقوها المتعبون .
يتمدّد النور المغتسل بالندى ورائحة البحر المعجونة بالملوحة والرطوبة التي ألفتها واعتدت على التواؤم مع أجوائها المتقلّبة .
أشعر وكأنّي حُقنت بشحنة من القوة والعزيمة ، ما جعلني أقوم بإلصاق صورة المُكلّا على إحدى جداران الصالة .
ألوانها المنصدمة بالضوء خلقت بداخلي تناغمات أكثر تموسقاً وانسيابيةً .
بدت انعكاساتها المنثورة على الجدران أكثر اهتزازاً وتمرّداً. كمن يهم بالهرب نحو حياة ووجهة أخرى .
أيّة طاقة من الصبر والتحمّل تلك التي بذلها رسّام هذه اللوحة . وكم هو الوقت الذي أستغرقه لينجز هذا العمل العظيم .؟
تبدو الشوارع أكثر احمراراً وتوهّجاً . وتدثّرت الشواطئ بهالة من الصحو والبياض , وانغمر البحر بالزرقــة اللامتناهية.
في الجزء الأيسر من اللوحة لمحت زرقة ثلاثية الأبعاد . لم تكن بحراً وليست بسماء . ممسكة بنجم يقطر دماً , كمن سقط توّاً من سماء وفضاءات بعيدة .
عمق اللوحة ودلالاتها الواقعية , جعلتني أُفكّر بما هو أدق وأعمق .
لحظة الانغماس التاريخي في بحيرة اللون والتخلّق , وصناعة الهوية والانتماء .
أشعرتني أن حياتنا أشبه بامتحان يومي . يجعلنا في تهيؤ واستحضار دائمين . لتصويب أخطائنا و الوقوف على عتباتنا الصائبة .
مؤكد أن الجذور المتمدّدة في العمق ستقهر مواسم الرياح والأعاصير ، وستخلق أفقاً أكثر رسوخاً ، وستلملم التاريخ المبعثر وأخطاءه المتوالدة .
بعد كل هذا الشوق والألم .
لم أدرِ لماذا لم يقر الإفك بذنبه .؟ ما جعل الشمس تخرج عن مسارها وتنغمر في عمق البحر.
تعالت يومها أصوات الشجب والإدانة , ولم تُغيّر شيئاً بعد أن قُطع حبل السُرّة , وخنق النور في محيط التنكّر المحكوم بالذل والخنوع .
هلامية اللحظة وقفت بتراخٍ أمام سياط الليل المشحون بالغضب .
اختلف الجميع في طريقة الخروج ، ولم يسأل أحد عن سبب ماحدث .؟
امتلأت الأرواح صمتاً وتخوّفاً ، وسكن التفكّك خلف ظلال المعنى ، فتوالدت التفاسير بأوجه متعدّدة .
لم أدر كيف أجيب .
مفاجأتي أكثر فرحاً وتلعثماً .
صوت الهاتف الخلوي يتمدد صداه ويتزايد حولي .
يهتز على الطاولة بعنف وشدّة .
تنقبض أوردة القلب محاولة التخلّي عن مهامها .
أمعنت النظر جيداً لمعرفة أسم أو رقم المتصل .
إنّه رقم شريفة .
– تكلّم ، أو ليس الغياب يقتل الحب .؟
– ألستَ أنتَ من تُردّد ذلك .؟
– لن أتحدّث بشيء .
– سأستمع فقط .
– تحدّثي كيف تشائين .
– وااااه يمُّونتي .
– ما بِكَ .؟
– ليس بي شيء .
– كنت أعد لك مفاجأة ، وها أنتِ تسبقينني باتصالك .
– مفاجأأأأأأة .
– نعم .
– أخبرني أرجوك .
– كنتُ قد ..!
– ألوووووو .
– اللعنة .
– ذهب صوت شريفة .
– أشعر أن روحي تغادرني وتسبقني إليها .
– أحاول الاتصال بها مرة أخرى .
– لم أفلح .
– ترى ماذا حدث .؟
– أهو عطب في الشبكة أم هناك شيء آخر .؟
أحاول أن ألملم تكسّرات روحي المتناثرة . باحثاً بين مقتنياتي التي حرصت على الاحتفاظ بها داخل حقيبة بُنيّة اللون متوسطة الحجم .
دسست يدي في قعرها مُفتّشاً بين محتوياتها من الأوراق وبعض السندات الخاصة بعملي في الميناء وبعض فواتير الماء والكهرباء الخاصة بغرفتي القديمة .
صور أبي وأمي وأخوتي وبعض الأصدقاء وزملاء الميناء أثناء رحلاتنا البحرية الكثيرة .
بعض قصائدي المكتوبة على أوراق شبه مُقطّعة ومهلهلة.
صورة صديقي عبدالله سلومه . عبّودي . قبل أن يغادر الخيصة إلى دولة شقيقة .
أهاااا وجدتها .
صورة شريفة بحجمها الصغير وألوانها الزاهية .
وجه ليس بدائري أو مربع ، بل مائل قليلاً إلى الاستطالة المُحبّبة . وعينان سوداوان مفتوحتان بهما كحل قليل . يعلوهما حاجبان صغيران ذوا رموش طويلة ، مرسومان بشكل مُرتّب . يتوسطهما شعر رقيق خفيف . ووجنتان طريّتان بهما بياض متوسط . وأنفٌ مستقيم مع حافة ممدودة وخياشيم ضيّقة . وشفتان صغيرتان متطابقتان مزمومتان بهما حُمرة خفيفة .
في حين اختفت أذناها ورقبتها وشعر رأسها الذي لفّته بخمار أسود ، رُبِطَ بتنسيق وعناية .
منذ عرفتها لم أرَ سوى عينيها وباقي جسمها تُغطّيه بعباءة سوداء . ودائماً ما تُغطّي يديها بقفازين ذوي لون أسود .
مرّة واحدة فقط لمحت أطراف قدميها البيضاوين .
لم أدرِ رُبّما يومها خرجت بعجلة ونسيت أن تلبس جواربها التي لا تتركهما البتة .
أعلم أنّها لو علِمت بأنني أحتفظ بصورتها لدي ستغضب كثيراً . لذلك لم أخبرها وبقيت محتفظاً بتلك الصورة بين أشيائي الهامة .
حدث أن لقيتها يوماً برفقة أخيها أسعد في مكتب الأحوال المدنية . وهي تحاول استخراج بطاقة شخصية الكترونية .
جلسنا معاً في الرواق الذي يجتمع فيه الناس الراغبين في الحصول على شهادات الميلاد والبطائق الشخصية والعائلية .
وفي لحظة مصحوبة بالصخب والتزاحم . انطلق صوت من مكتب صغير قريب من موقع جلوسنا منادياً باسمها فقفزت تواً رفقة أسعد ودخلا معاً ذلك المكتب .
بقيتُ وحيداً على كرسي حديدي طويل مكسو بالصدأ وبينما نظرت على جانبي الأيمن إذ وجدت محفظة يد صغيرة . عرفت للتو أنُها لشريفة . فتحتها بسرعة وارتباك وإلى الآن لم أدرِ لماذا أقدمت على صنع ذلك .!
رأيت بداخلها مبلغاً من المال ومجموعة من الصور الفوتغرافية الصغيرة .
أخذت منهن صورة واحدة . ثم أغلقت المحفظة وأعدتها إلى موضعها الأول , وخبأت تلك الصورة في جيب سترتي . ولم أكد أسحب يدي من جيبي حتى رأيتها واقفة أمامي تسألني بارتباك وتسارع :
– أيمن .
– هل رأيت محفظتي .
لم أدعها تكمل كلماتها . حتّى ناولتها محفظتها . فشعرت وكأنها هدأت وأطمأنت قليلاً .
ثم عادت مسرعة ودلفت ذلك المكتب الذي خرجت منه .
انتظرت مايقارب الساعة والنصف . ثم خرجا بعد ذلك.
سألتهما بهدوء وتذاكِ:
– هل أنتهيتما .
ردّت شريفة بملل وسأم :
– أنهينا ما طُلب منّا .
وأضافت ببرود وتوجّس :
– أخبرونا أن نراجعهم بعد ثلاثة أيام .
قال أسعد بشيء من اللامبالاة :
– إذا صدقوا وعدهم.
ضحكنا جميعاً ثم غادرنا المكان متوجّهين صوب المكلا .
ما أن وصل الباص بالقرب من بيتهم ، حتى طلب أسعد من السائق التوقّف .
خرجا مسرعين بعد أن تواعدنا باللقاء في وقت آخر .
بقيت داخل الباص الذي سيصل إلى محطّة توقّفه الأخيرة في زاوية بحي الشهيد خالد .
وما أن وصل نهاية وجهته حتى تركته باحثاً عن مركبة أخرى تقلني إلى الميناء الواقع شرق المكلّا .
طوال نهاري وأنا أتحسّس جيب سترتي ، ولم أصدّق يومها أن انقضت ساعات عملي حتّى عُدت مسرعاً نحو شقّتي.
لم أعتد على أخذ شيء ليس لي .
هذه هي المرّة الوحيدة التي أُخبّىء فيها شيئاً عن شريفة .
لكن ..!
سأخبرها في وقت المناسب .
قد تغضب .
لا علي .
حين نجتمع معاً سأخبرها بالأمر كاملاً .
وأنا أهم بإرجاعها إلى داخل حقيبتي . إذ سمعت صوتاً ينادي باسمي.
ترى من يكون صاحب هذا الصوت .؟
إلى اللحظة لم يعرف أحدٌ بسكني وعنواني الجديد.
أيمننننننن .
أعدت صورة شريفة بين أوراقي وأشيائي القابعة في حقيبتي وأغلقتها جيداً . ثم دسستها بين أغراضي التي لازالت قابعة داخل الصالة .
ثم وقفت عند عتبة الباب محاولاً النظر من العدسة التي تقع في منتصفه ، ولم أكد أهم
Comments are closed.