“كورتشا بدون مكياج”: عن أقدم وثيقة وقفيّة ألبانية مكتوبة بالعربية
كان الفتح العثماني للبلقان، منذ منتصف القرن الرابع عشر، فتحاً لمنطقة واسعة تسيطر فيها النظُم الإقطاعية، التي تتمركز حول القِلاع، بينما كانت المدن قليلة العدد والسكّان ولا تتجاوز الواحدة منها عدّة آلاف. ومع اكتمال الفتح العثماني للبلقان بعد حوالي قرنين، كانت صورة المنطقة قد تغيّرت مع توسّع وتشرّق المدن القائمة (صوفيا وسكوبيه وبلغراد وغيرها) ونشوء مدن جديدة بطابع شرقي أصبحت بعضها عواصمَ (سراييفو وتيرانا وكورتشا وغيرها).
وفي الحقيقة، ارتبط هذا التطوّر العمراني بانتشار الأوقاف، حيث كان أبناء المنطقة الذين ترقّوا في الهرمية العثمانية يعمدون إلى بناء نواة عمرانية متكاملة (جامع، وحمّام، وسوق، ومدرسة، وزاوية لتقديم وجبات مجّانية، إلخ) في مكان مناسب يشدّ إليه السكّان من المناطق المجاورة، لتتحوّل هذه النواة إلى “قصبة”، ثم إلى مدينة.
ومن هذه المدن الجديدة، في ألبانيا، مدينة كورتشا (Korça) التي بناها الياس بك، أحد أبناء المنطقة، الذي ترقّى وأصبح صهر السلطان محمد الفاتح، وعندما تقاعد، آثَرَ أن يعود إلى مسقط رأسه وأن يبني هناك نواة عمرانية ضمن وقْف كبير سرعان ما تحوّل إلى قصبة، ثم إلى مدينة مهمّة في جنوب شرق ألبانيا تحمل اسماً أصبح يرتبط بأقدم وثيقة مؤسّسة لمدينة في ألبانيا ومكتوبة باللغة العربية.
كتابٌ يعود إلى بدايات مدينة ألبانية وُلدت كوقف إسلامي
ومع ما كُتب عن هذه المدينة وتاريخها منذ مطلع القرن العشرين (كتاب نوتشي ناتشي “كورتشا وقراها”، 1901)، إلّا أن كلّ هذا لم يمنع من صدور كتاب ضخم (480 صفحة من الحجم الكبير) بعنوان “كورتشا بدون مكياج” للباحث فبرون حساني (V. Hasani) عن “معهد التربية والتراث الثقافي” (تيرانا، 2020)، حيث من الطبيعي أن تشغل فيه الوثيقة المؤسِّسة للمدينة مكانةً مهمّة، مع معطياتٍ جديدة عنها.
“إلى أن تقوم الساعة”
وفي الحقيقة، يغصّ الكتاب بتفاصيل كثيرة عن نشأة المدينة وتحوّلها بسرعة إلى مركز حرفيّ وتجاريّ، بحكم موقعها بين طرق المواصلات بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، وتطوُّر الحياة التعليمية والثقافية والسياسية مع تأسيس أوّل مدرسة، وبروز المقاهي التي لعبت دوراً ثقافياً، وكذلك بروز شعراء كان من أشهرهم حسن زيكو كامبيري (1743 – 1810)، الذي لُقّب بـ”ملك الشعراء”، وصولاً إلى استقرار المدينة بعد نهاية الحكم العثماني (1913) ضمن ألبانيا المستقلّة، وبالتحديد في أقصى الجنوب الشرقي، بالقرب من الحدود مع اليونان ومقدونيا الشمالية. وعلى الرغم من هذه التفاصيل الكثيرة في الكتاب، إلّا أننا نريد هنا التوقّف عند تفصيل مهمّ، ألا وهو وثيقة تأسيس المدينة، أو وقفية ابن المنطقة الياس بك (1408 – 1511)، التي كُتبت في العربية.
وتجدر الإشارة إلى أن اللغة العربية حظيتْ في بداية انتشار الدولة العثمانية بمكانة خاصّة، حتى أن الوقفيات في البلقان كانت تكتب باللغة العربية، ومن ذلك هنا خصّص له العالم حسن كلشي H. Kaleshi (1922 ـ 1976) أطروحته للدكتوراه عن “أقدم الوثائق الوقفيّة المكتوبة في اللغة العربية في يوغسلافيا” (بريشتينا، 1973).
في ما يتعلّق بصاحب الوقفية، أو “مؤسّس مدينة كورتشا”، كما أصبح يُعرف، فالمعلومات تفيد بأنه ولد في قرية باناريت (Panarit) التي تقع قرب المدينة التي أسّسها، وآثر أن يعود إليها ويتوفّى فيها بعد مجد عسكري وسياسي في الهرميّة العثمانية، التي كانت تسمح لابن فلّاح بسيط أن يصعد فيها وحتى أن يتزوج ابنة السلطان. فقد التحق الياس الشاب بالجيش الانكشاري بعد أن أسلم وبرز بشجاعته، ممّا أهّله للصعود، وخاصّة بعد أن شارك، عام 1453، في فتح القسطنطينية مع السلطان محمد الثاني الذي زوّجه ابنته، وعاد بعدها حاكماً لألبانيا الجنوبية.
ونظراً لخدماته، فقد منحه السلطان الجديد، بيازيد الثاني، أراضيَ واسعة حول مسقط رأسه: قرية قام بوقفها لتخدم النواة العمرانية الجديدة التي أسّسها في نهاية القرن الخامس عشر ووثّقها بعد ذلك في الوقفية المؤسِّسة لنواة المدينة الجديدة، التي تحمل تاريخ 1 رمضان 910 هجري/ 5 شباط 1505 ميلادي. وحسب فلسفة الوقف الذي يُراد منه أن يبقى قائماً “إلى أن تقوم الساعة”، كان على الواقف أن يحرص على بناء منشآت (الخان، السوق، الحمّام، إلخ) توفّر بتشغيلها الدخلَ اللازم لتغطية نفقات منشآتٍ أخرى تقدّم خدمات مجّانية (الجامع، المدرسة، والعمارة التي تقدّم وجبات مجّانية للطلّاب والعابرين، إلخ)، وهو ما كان يجب على الواقف أن يدوّن كلّ تفاصيله في الوقفية، حتى يبقى التوازن قائماً بين الدخل والخرج، وأن يستمرّ الوقف بتقديم خدماته “إلى أن تقوم الساعة”.
وثيقة أصبحت ثروة للعائلة
حسب العادة، كان على الواقف أن يعيّن متولّياً يقوم بإدارته وضمان نجاحه واستمراره. وفي هذه الحالة، يفضِّل الواقف أن يكون هو نفسه المتولّي الأوّل، ثم يحدّد في الوقفية مَن يأتي من بعده. وهكذا، فقد استمرّ هذا المنصب (المتولّي) مع ابن الياس بك وأولاده حتى غدا لقباً وكنية لهم (Myteveli)، وصولاً إلى المهندس رستم متولّي (1930 ـ 2015) الذي كان يُفترض أن يكون المتولّي السادس عشر لهذا الوقف الضخم الذي ارتبط به تأسيسُ مدينة كورتشا وتطوُّرها.
ولكنّ تطوّر الأوضاع السياسية في ألبانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ووصول “الحزب الشيوعي” إلى الحكم، حال دون أن يقوم بذلك هذا الحفيدُ الذي كان يحلم بأن يدرس العمارة ليحافظ على النسيج العمراني المميّز للمدينة التي أسّسها جدّه الأكبر الياس بك. ومع أنه تمكّن من دراسة العمارة في الاتّحاد السوفييتي، إلّا أن الحكم الشيوعي ــ الذي أمّم ممتلكات الوقف ــ شاء أن يُبعده عن كورتشا ويعيّنه في مدينة ماليتش (Maliq) ليعمل هناك في معمل سُكّر خلال الفترة 1978 – 1990!
ظلّت وثيقة تأسيس المدينة مُلكاً لعائلة مُنشئها طيلة قرون
ومن هنا، فإنّ ميزة هذا الكتاب تكمن في احتوائه على تفاصيل أدلى بها المهندس المعماري، رستم متولّي، حول مصير الوثيقة المؤسِّسة للمدينة التي كتبها بنفسه الياس بك، باللغة العربية، على شكل لفافة بطول يصل إلى سبعة أمتار ونصف المتر. ويكشف الحفيد كيف أن العائلة كانت تعتبر هذه الوثيقة أساسَ وجودها واستمرارها، ولذلك كانت تحرص عليها كحرصها على حياتها وترفض طلبات الحكّام، من الملك أحمد زوغو إلى الديكتاتور أنور خوجا، تسليمَها لهم.
كما يكشف كيف أن أنور خوجا زار بيت العائلة مع رئيس اللجنة التنفيذية في المدينة، مفتار غرابوتسكا، وأشاد بحرص العائلة وحفاظها على هذه الوثيقة المهمّة، ولكنّه لم يطلب صراحةً تسليمَها للدولة. إلّا أن زوجته، نجمية خوجا، قامت بذلك، حيث ألحّتْ إلى الحدّ الذي أحرج العائلة ودفعها للموافقة في عام 1957 على إعارة الوثيقة للدولة للاطّلاع عليها ودراستها ثم إرجاعها. ولكنّ الوثيقة خرجت من بيت العائلة ولم تعد إليه.
في غضون ذلك، قام الباحث بتراش بيبو بنشر دراسةٍ وترجمة لهذه الوثيقة، من العربية إلى الألبانية، بمساعدة المستشرق الألباني حقّي شاروفي H. Sharofi (1894 ـ 1993)، وذلك في العدد 3 من “مجلّة العلوم الاجتماعية” (تيرانا، 1957)، وقدّم نسخة منها موشّحة بتوقيعه يعبّر فيها عن تقديره للعائلة التي حافظت على هذه الوثيقة النادرة طيلة خمسة قرون.
كان حلم المهندس رستم متولّي أن ينقذ المدينة من “المجزرة” التي حلّت بها خلال الحكم الشيوعي، والتي أطاحت الكثير من المنشآت العمرانية التي كانت تعبّر عن ملامحها الشرقية. وفي هذا السياق، نجا بأعجوبة جامعُ الياس بك، المؤسِّس للمدينة، من انفلات “الثورة الثقافية” في ألبانيا، التي تجاوزت كثيراً أُمّها الصينية، مع “إلغاء الدين” وهدم الكثير من الجوامع أو تحويلها إلى صالات ومخازن، قبل أن يُعاد ترميم الجامع في 2011، مستعيداً ألقه كمَعْلَم مهمّ من معالم المدينة.
- كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
- محمد م. الأرناؤوط
Comments are closed.