كيف “يحاصر” شعراء لبنان الموت بالشعر؟
“لن يقولوا: كان ذلك في أزمنة مظلمة، بل سيقولون: الشعراء لِمَ صمتوا؟” برتولد بريخت، كاتب وشاعر ومسرحي ألماني، لاذ بالشعر ليعيد كتابة العالم.
الشعر إبن بيئته أولاً – وكذلك الأدب بطبيعة الحال – ينطلق من القضايا الوطنية والكونية والجوهر الإنساني، ومن حاجة ملحّة لإعادة صوغ العالم وإعادة اجتراحه على أسس جديدة ومغايرة.
من المفيد التذكير اليوم بأنّ الشعر حال وليس قالباً. بالمفهوم الحديث يتجسّد الشعر في الشعريّ (ة) أو الشاعرية ولا يحدّده الشكل العَموديّ. إنه نبضٌ ونفَسٌ وأسلوب تعبيري شديد الرهافة ورؤية ورؤيا أحياناً، وأوردة، وتخيّلٌ وتخييل، ومعنى مجازي، و/أو موقفٌ مباشر جليٌّ أحياناً، وسؤال وجودي بالغ الأهمية، وصرخة… الشعر يجنّح الفكر ليطير ويلتهم القلوب. وهو العَمود الفقري للأناشيد والأغاني والمحرّض على اعتناق روح الجمال والتجلّي.. إنه في بعض الأحيان استحضار أو استشراف وحدس هائل، ويمثّل مرتجى ولو في غيهب اليأس، وهو تغريد يجابه خراب الأرض.
الفنون مرآة حضارية للشعوب، والشعر فنُّ الكلمة كما استنتج تولستوي وأبولينير، وقال بول إيلويار Paul Éluard الشاعر الفرنسي إن “الشعر فنّ اللغة وفنّ الحياة”.
في ظل الانهيار المتمادي في لبنان على الصعد كافة، فإنّ الكثيرَ من القصائد التي قرأناها مؤخراً تُعيد إلى الواجهة هواجس الإنسان والمواطن اللبناني تحديداً، وبعض قضاياه المطلبية، إنْ بشكل مباشر أو غير مباشر، وأحلامه في التقدّم والعيش بعزّة وكرامة وأمان. ثمة نصوص شعرية إبداعية أو تعبيرية تعيد طرح مسألة أهمية ودَوْر الشعر والنثر والكلمة في التعبير والتغيير والتأثير. تلك الكلمة المتفاعلة مع المشهد الوطني والنابعة من قلبه وأوجاعه.
في هذا الإطار، التقت الميادين الثقافية بعض الشعراء اللبنانيين الذين نشروا قصائدهم في مواقع التواصل الاجتماعي.، وذلك لكي تصل إلى جمهور أوسع، عاكسةً ما يعتريهم والهموم التي تؤرّقهم والمتأتّية عن القهر الاجتماعي، والبُعد الوطني – حيث لا يخفى على عاقلٍ أنّ مفهوم الوطن والهوية الوطنية في لبنان موضع إلتباس وحتى خلاف- وصولاً إلى الخوف لدى البعض راهناً من شبح الحرب الأهلية، وتطلّعاتهم.
في النصّ الذي يقدّمه لنا الشاعر اللبناني بلال المصري على سبيل المثال، تتبدّى برهافةٍ شعريةٍ صادقة ومتقطّرة القضية الإقتصادية – الاجتماعية، حيث ينطلق صاحب ديوان “خفيفاً كزيت يضيء” من وجع الفقراء متقمّصاً إيّاه، في ظلّ وضع لبنان المنهار والمهترىء:
“أنا مريضٌ/ صوتي مثقوبٌ مثل حذاء/ طفلٌ مسكين يبيع الوردَ للعاشقين/ ويسهرُ مثلهم حتى آخر الليل/ ثم يقفز من شباك الحكايات/ وقد ذبل قلبه مثل ورده/ أنا مريضٌ/ قلبي مثل دفترٍ قديم/ تتكدّس فيه وجوه الدائنين/ وأكذب دائماً على نفسي/ أقول غداً أجمل من كل النساء/ لكنه قبيحٌ وقاسٍ/ مثل شجرةٍ تنبت على ذراعِ رجلٍ يحمل طفله/ وهو يحكي له حكاية عن الخبز الذي يبتسم للأطفال/ إذا ناموا جياعاً”.
أما الشاعر مكرم غصوب فيقول في حديث مع الميادين الثقافية إنّ الكثيرين يردّدون قولاً سائداً “في الأزمات نهرب إلى الكتابة”، فيما يعتبر أنه في الأزمات يواجه بالكتابة. يقاتل بها ويقاوم لينتصر للحياة بالشعر. يشدّد على أنّ للانهيارات الاجتماعية والاقتصادية مسببات سرطانية عميقة تتمظهر أحياناً كأنها من نتائجها لأنها تظهر جليةً فيها، منها سقوط المعنى أو مسخه وتفريغه، انحطاط العلاقات الأفقية والعَمودية، تسطيح العقول”.
ويضيف: “حين يسقط المعنى بالشعر نرفعه، وحين يفرَّغ بالشعر فكراً وجمالاً نملأه. وبالشعر أيضاً نعيد صوغ مفهوم العلاقة بشكلٍ دائري، حيث لا يؤخذ الحب إلا بعطائه. والعقل يستعيد دوره في الخلق والإبداع، في النقد والتجديد حين يغوص في آن في عمق السؤال ويحلّق في مدى الخيال. الموت يحاصرنا بكل وجوهه الصامتة المقنّعة، فلنُسقط بالكلمة هذه الأقنعة، ولنفكّ بالفعل الحصار ولنحاصر الموت بالشعر. فالشعر كالبندقية التي لا تقتل إلاّ الموت، وبعض الرصاص قاطعٌ، وبعضه وصال، وبعضه الساطع نورٌ، وبعضه قتال”. يتبدّى المعنى الذي يستظل به مكرم غصوب ويمتشقه في نصه الشعريّ الجديد:
“سنموت جوعاً في أرض الخيرات/ في أرض القمح والعسل والماء/ في أرض الثروات الطبيعية والجبال الأبيّة والسهول الخضراء/ في أرض البيئة الغنيّة بالتنوّع والتجدّد والبهاء/ سنموت جوعاً/ لأننا فقدنا الأرض في اقتتالنا على السماء/ سنموت جوعاً/ لأننا أبطال الجهل والتشتت والتفتت والادّعاء/ سنموت جوعاً/ لأننا العبيد/ نشتري الحرّية المعلّبة مقابل الانتماء/ سنموت جوعاً/ لأنّهم سرقونا فانحنينا/ ثم باعونا ما سرقوه فاشترينا/ سنموت جوعاً/ لأنّهم استهلكونا فانتشينا بالاستهلاك/ ثم أهلكونا في الذلّ فارتضينا الهلاك/ سنموت جوعاً / منازعين متنازعين بين غربٍ وشرقٍ وفي أرضنا كلّ الفرق/ كلّ الخير وكلّ الجمال وكلّ الحق/ سنموت جوعاً/ لأننا لم نزرع ولم نصنع ولم نُنتج إلاّ السمسرات/ سنموت جوعاً/ لأننا كنّا الأصل وصرنا “التقليد”/ لأننا قتلنا التجديد/ مات فينا معنى الحياة/ قبل أن نموت جوعاً”.
الشاعرة فيوليت أبو جلد تقول في تصريح لـ “لميادين الثقافية” إن الكتابة رغبة ذروتها الحرية، والشعر ثورة ورفض وأسئلة وبحث وتنقيب وانقلاب وإعادة خلق. الشعر محاولة يائسة لترميم الكون، محاولة دائمة ومستمرّة لكنهم يريدون إلهاءنا بالحروب، بالمزايدات الدينية والطائفية التي تشلّ تقدّمنا وتطوّرنا نحو عالمٍ أفضل يعمّه السلام والعلم والمعرفة والجمال.
وتضيف: “لا أجيد العيش وسط كلّ هذا الحقد… ننشغل بالتافه من أبسط حقوقنا بدلاً من أن نسعى إلى مواكبة الحياة في تألّقها”.
تعتبر فيوليت أنّ النهايات التي نعيشها مرعبة: “نعاني من نقصٍ فادح في الوهم وهو ما نحتاجه لنكتمل كشعراء لكنّ الواقع الآن يُثقل علينا بهمومه ويوميّاته، فلا وقت للشرود أو لتأمّل هنا وبحث هناك. الوقت الآن هو للخبز والماء والدواء، يا للأسى (…)”. مستفيضة تقول بتعابيرها: “نُسرَق من أبسط حقوقنا ومن أبسط أحلامنا. حتى العدوّ الذي كانت الذات تتعرّف إلى نفسها بوجوده وبتعريفه وبملامحه هو أيضاً انقلب إلى عدوّ بائس يفترسنا من الداخل. تفتّت وأصبح جزءاً من يومياتنا، يستفزّنا ويقفز أمامنا في كل لحظة كنقيضٍ يوميّ لكلّ ما هو جميل حولنا. تلاحقني خيالات الحروب، نعم، فقد وقعت من الطابق “1974” على حروب تدور حولي ثم صارت تدور في رأسي. عشت حروباً وما زلت أبحث عن مخبأ يوميّ من نشرات الأخبار، ولا مفرّ. يبني الشاعر عالماً موازياً، لا يحبّ الأفكار المسبقة، لا الولاء ولا التبعية (…)”.
كتبت فيوليت أبو جلد قصيدتها عن خيالات الحروب ونشرتها في مواقع التواصل الاجتماعي في زمن الانهيار المستمرّ:
“لماذا تلاحقني خيالات الحروب!/ تخبو أصوات النايات والكمنجات في رأسي/ تعلو أصوات الاحتمالات والأسئلة/ أصنع أعدائي واحداً تلو الآخر/ وأصرخ: إلهي إلهي لماذا تركتني؟/ لماذا تركتهم؟/ لماذا أورثتني هذا النزيف الحار/ هذا الجرح الغائر/ لماذا حمّلتني أجنحة ثم أولمت لي الخطايا/ وزرعت لي الفخاخ لأقع وتلمّني!/ خلقتُ عوالم خاصة لأنجو/ وما نجوت/ تلاحقني خيالات قديمة/ يلاحقني أنني أحببت من خارج سرب الحياة/ أني عشت خارج سرب الحياة بين المتخَيّل والريح/ أنا سرب كلماتٍ تحارب خيالاتها”.
أما الشاعرة سامية خليفة، تقول لنا: “أتأمّل ذاتي فلا أجد في داخلي ما يستحقّ أن أكتب عنه إلاّ وطني. الكتابة تخرج عن رسالتها حين تكون لاستجلاب قرّاء فحسب. وطني يرزح تحت أعباء حرب التجويع، ونحن ما زلنا في منتصف القصيد عالقين بين فكّي غولٍ لا يرحم. تُرى كيف سنتمرّد غداً إذا استعصت علينا الكلمات؟!”.
وتبوح سامية: “كثيراً ما أتأمّل صفحة الواقع، اليوم ما بالي أقرأ بين سطورها مآسي شعبٍ حرّ يرفض أن تركنَ طموحاتُه جانباً ليمسيَ كآلةٍ توقّفت عن العمل؟ شعبٌ يعي أنّ من أبسط حقوقه أن يحلم هو وأبناؤه بغدٍ أفضل. ربما الواقع أكبر من أن نلعن الظلام فاللعنة لا تجدي ونحن أبناء النور ونحن مَن نمدُّ الوطن بذاك النور، فلِمَ يا وطني أمسيتَ حلماً لا يُطالُ حتى مات فيك الحلم؟ ها إنّي أراكَ حلماً مسجّى”. كثيراً ما تطرح الشاعرة على نفسها ذلك السؤال: ماذا ينعش النفس ويبقيها متماسكةً في ظلّ هذا التدهور اللامعقول المسيطر على كل الصُّعُد غير الأمل بغدٍ أفضل؟ مع تحقُّق الأحلام تصبح الحياة أجمل، تقول سامية: “نندفع، نطوّر، نبدع، نزرع الفرح. لكن حين يخذلنا الواقع فيأتي الغد مدجّجاً بأشواك الفقر مثقلاً بالقهر، الذل فيه يتضاعف (…) حين تموت الأحلام تُدفن، وتُدفن معها أجيالٌ. أجيال فضّلت الهجرة، وثمة مَن أقدمَ على الانتحار، وبين هذه الأجيال مَن يصارع مارداً كبيراً إسمه الدولار، لا حياة كريمة تُرتجى في وطنٍ فُقدتْ فيه صلاحية الإنسانية وفُقدت معه الحقوق، حاضرٌ مظلم ينبئ بغدٍ كارثيّ. تلك هي الحقيقة التي حكتها الشمسُ وهي تزيل دموع القهر عن وجوه الناس”.
بعنوان “وطني… الحلمُ المسجّى” كانت قصيدة سامية خليفة التي نشرتها في صفحتها في “فيسبوك”:
“إنْ فقدَ اللّون بريقَه/ تظلّ له أنغامُه/ تتناسقُ مع سطوعِ الشّمسِ/ مع تغريدةِ أنثى/ تنسابُ/ ألحانًا شجيّة/ من بينِ ثقوبِ نايٍ/ إن تخلّى الناسكُ عن سجدتِهِ/ يبقى هناك بين ضلوعه/ قلبٌ خافقٌ في جسدِه الحرّ/ يصلّي بلا ثوبٍ/ بلا قيودٍ/ وصلاتهُ تعبرُ الكونَ/ ترمِّم بالمحبةِ تصدّعاتِ النفوسِ/ الآيلةِ للاندثارِ/ إن فقدَ الأملُ سحرَه/ لا استنساخَ له يعيدُ فتنتَه/ لا رديفَ له يستعيضُ عنهُ وهجهُ/ الأملُ تلك الشعلةُ التي لا تنطفئُ/ في قلبِ مؤمنٍ/ إن ماتَ الحلمُ/ ذلك المسجّى على سريرِ الأماني/ ما الذي سيأخذُ دورَه بعدَه/ وطني أمسى الحلم المسجّى/ على سريرِ الانهيارِ”.
من جهتها، تتحدّث الشاعرة ليندا نصار عن بيروت الحلم مدينتها التي تركتها ذات طفولة وعادت إليها بعد انتهاء الحرب الأهليّة. تقول: “كنتُ أصفها وأنا في حال من الافتتان ببحرها، أراقب أمواجه وهي تلهو بضرب الصخور من دون استسلام أو انكسار. بعد انفجار المرفأ واللحظة الأليمة التي عاينّاها نطق قلمي من هول الفاجعة: “بيروت أيّة استعارة التقت بكِ ولم تحرقكِ؟ ما رأيتُ فيكِ سوى جريحٍ يحمل جرح غيره، سوى قتيلٍ ينعي حيّاً شرّدته الحياة وبات يلوذ ببقاياكِ، لعلّه يتذكّر مَن يكون…”.
تأسف نصّار أن تكون شاهدة على هذا الكمّ من الدمار النفسي والقهر الاجتماعي الذي نعيشه اليوم في لبنان: “في هذا الخراب الذي حلّ بنا، والموت البطيء الذي نعيشه عطّل حواسنا، صرنا عاجزين عن التحديق في أصغر الأمور، بعدما فقدنا أقلّ مقوّمات العيش السليم للإنسان وحقّه في لحظة سلام يخرج فيها من حالات الاختناق اليوميّ، نعم لقد صرنا عاجزين عن التفكير إلا في هموم الخبز والدواء والوقود…”.
لكن، مع ذلك، لم تفقد الشاعرة الأمل إلا أنها تسأل نفسها دائماً: “كيف أكتب وبيروت في حالة موت سريري؟ بعد كلّ هذا الخراب وهذا الأسى الذي نعيشه، أؤمن بأن جمرة واحدة قد تغلب الرماد وتشتعل من جديد، هكذا هي بيروت، إنها تلك التي قدّمت إليّ روحها ذات خريف تحوّلَ إلى ربيع، وأنا أؤمن أنّها ستجمع أشلاءها وتنهض من أجل كلّ من آمن بها، ومن أجل كلّ مَن اتخذها ملجأ له في أوقات الضيق والتشرّد”.
بيروت
Comments are closed.