لا حبيب كالأمّ ولا مدينة كبغداد
بعد أن نشرنا في “العربي الجديد” الفصول التي تحدّث فيها الكاتب التركي عزيز نيسين (1915 – 1995) عن رحلته إلى مصر عام 1966، نستكمل بفصل جديد مُجريات رحلته إلى العراق عام 1975 وحديثه عنها، وذلك في كتابه “الدنيا قِدرٌ كبير وأنا مِغرفة” وهنا مقتطف منه.
كان أتراك ياقوتيا هم أوّل الأتراك الذين جاؤوا إلى بلاد الرافدين من آسيا الوسطى. عندما أراد الخليفة حماية قصره بمجموعات من الأتراك المُحاربين عام 676 ميلادية، اختيرَ أمهرُ المحاربين الأتراك وجِيء بهم إلى بغداد والبصرة. ولكنْ هل ترَون كيف تُغلق ألمانيا الأبواب في وجوه العمّال الأتراك الذين يذهبون إلى هناك الآن؟ لم يحدث مثل هذا عندما ذهب الأتراك قديماً إلى العراق، ولذلك هاجروا إليه بكثرة. وعندما أخذ العثمانيون العراق بعد ذلك، ازدادت أعداد المُهاجرين.
ويجب أن أقول شيئاً قبل أن أنسى: كلّنا يسمع عن شهرة الخيل العربي، إنّ سلالة هذه الخيول تعود إلى آسيا الوسطى، حيث جلبها الأتراك إلى بلاد الرافدين. وكان ترويض الخيول هو أساس عمل الأتراك. وقبل أن يأتي الأتراك إلى بلاد الرافدين، كانت تُعرف هذه المنطقة بالجِمال وليس الخيول. وأثناء الصراعات التي حدثت بين الأمويّين والعبّاسيّين، وقف الأتراك مع العبّاسيّين، وحصلوا على مناصب رفيعة في الدولة العبّاسية بعد ذلك. وقد ازداد عدد الأتراك هناك حتّى إنّهم بنَوا مدينة خاصّة بهم؛ هي سامرّاء.
قامت بلدان عديدة في منطقة بلاد الرافدين وانهارت بعد ذلك. وفي عام 1514 ميلادية، هزم السلطان سليم الأول الشاهَ إسماعيل وأخذ مدينتَي الموصل وكركوك وضمّهما إلى الإمبراطورية العثمانية، وبعد ذلك ضمّ ابنُه السلطان سليمان القانوني مدينة بغداد ثم البصرة. وكانت هناك صراعات كبيرة بين الدولتَين العثمانية والصفوية، وبعد أن صعَد السلطان مُراد الرابع إلى العرش في سنّ صغيرة، وشهدت الدولة العثمانية صراعات في الداخل، استولى الصفويّون على بغداد من جديد، إلّا أنّ السلطان مُراد استردَّها مرَّة أُخرى.
ملحَمة الشاب عثمان
أثناء محاولات استرداد العثمانيّين لبغداد، كان هناك شابٌ محاربٌ ما زالت تُغنَّى باسمه الأُغنيات في تركيا حتى اليوم، وهو البطل عثمان. كان في الثامنة عشر من عمره، وكانوا يقولون له عثمان الشاب لصِغر سنّه، وقد مات بعد دخول الجيش العثماني إلى بغداد.
كان لعثمان قبرٌ في بغداد، ولكن للأسف قامت الحكومة العراقية في الستّينيات بهدم قبره بدعوى إنشاء طريق في هذا المكان، وللأسف أيضاً، لم يهتمّ المسؤولون الأتراك بذلك. إلّا أنّنا نُردّد مراثي عثمان حتّى الآن. وبحسب الأغاني التي يردّدها تركمان العراق حوله، نعرف أنه من مدينة قارص التركية.
تركيا بين ركلات الإمبريالية
بعد أن استردّ السلطان مراد الرابع بغداد، عاد إلى إسطنبول وشيّد قصراً صغيراً باسم بغداد داخل “قصر توب قابي”. وقد ظلّ العراق أرضاً عثمانية حتى “هدنة مودروس” عام 1918. وفي هذا الوقت كانت عيون الإنكليز والفرنسيّين على البترول في هذه المنطقة، وكان الألمان بينهما هم الأكثر جشعاً، لأنهم بدأوا الاستعمار متأخّراً. وقد حدث ذلك الصراع بين الإمبرياليّين في فترة السلطان الشكّاك عبد الحميد الثاني، حيث مرّ عهده بإقامة التوازنات بين تلك القوى.
وقد حاول السلطان عبد الحميد كثيراً أن يُحافظ على البترول الذي في تلك المنطقة، وفي عام 1890 صدر فرمان، ذُكر فيه شيء جديد، وهو: “أصبحت أماكن تواجُد البترول في الموصل تابعةً لأملاك السلطان”. وهذا يعني أنها صارت مُلْكاً شخصيَّاً للسلطان عبد الحميد.
نفهم من هذا أنّ بغداد كانت من أكثر المدن ازدهاراً أيام العثمانيّين
وبعد أن وصل “الاتّحاد والترقي” إلى الحكم وأسقطوا عبد الحميد، أعادوا هذه المناطق إلى مُلكيّة الدولة. وحتى اليوم، يقول مؤيّدو السلطان عبد الحميد في تركيا: “لو ظلّت هذه الأراضي ملكاً خاصاً للسلطان، لذهبت بعد ذلك إلى ورثته، رغم وجود الإنكليز. ولم لم تُسحَب الجنسية التركية من نسل العثمانيّين، لكان للأتراك حقٌّ اليوم في بترول الموصل”. وما زال مؤيّدو السلطان عبد الحميد يعيشون في هذه الأحلام، ويقولون آمين للدعاء الذي لن يتحقّق.
ولكن كيف أقام عبد الحميد غير المبالي هذه التوازنات ضدّ الإنكليز؟
وضع السلطان الألمان في مواجهة الإنكليز، ولكي لا يقع في حضن الإمبريالية الإنكليزية، مدّ يده للإمبريالية الألمانية. إذ أعطى للألمان امتياز خطّ سكك حديد بغداد، وقبله الألمان على الفور، لأنهم وجدوا أنّ هذا الخطّ سوف يقسّم إمبراطورية الإنكليز.
وقد كانت أهداف الاستعمار الثقافي مختلفة لدى الإنكليز عن الألمان في الأراضي العثمانية، ركّز الإنكليز على نشر أفكار القومية العربية، وكان الألمان يفعلون الأمر نفسه مع الأتراك، بنشر الأفكار القومية التركية. أمّا السلطان عبد الحميد، الذي ضاق به الأمر بين المستعمرَين الكبيرَين، فقد واجه هذه الدعاية بفكرة “الجامعة الإسلامية”.
وبعد سقوط السلطان عبد الحميد، ووصول “الاتحاد والتّرقي” إلى الحكم، انتشرت أفكار القومية التركية، نظراً لقُرب “الاتحاد والترقّي” من الألمان. ونشر الإنكليز عداوة الأتراك بين العرب. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وجد الأتراك أنفسهم وحيدين داخل الحرب، حيث أعلن الإنكليز الحرب عليهم سريعاً وقاموا باحتلال البَصرة، وفي هذه الأثناء أُعلِنَ الجِهاد المقدّس، بمعنى أن يكون كلُّ المسلمين في مواجهة الإنكليز، ويجب ألّا ننسى أنّ العثمانيين كانوا يحاربون في سبع جبهات آنذاك.
استولى الإنكليز على البصرة، وربّما هذا هو سبب انتشار هذه المقولة لدينا في تركيا حتى الآن: “بعد خراب البصرة”، أي بعد فوات الأوان. وفي عام 1917 دخل الجيش الإنكليزي إلى بغداد بسهولة. لم يكن هناك فرق في عيون المثقّفين العثمانيّين بين البوسنة وأنقرة والأناضول والعراق، وليس هذا فقط، باستثناء إسطنبول وإزمير، كانت المدن التركية في أوضاع أسوأ من مدن مصر والعراق. حتّى إنّنا نقول اليوم في تركيا: “لا يوجد حبيب مثل الأمّ، ولا مدينة مثل بغداد”. ونفهم من هذا أنّ بغداد كانت من أكثر المدن ازدهاراً أيام العثمانيّين. وهل ننسى الكتاب الذي ألّفه الشاعر سليمان نظيف باسم “فراق العراق”، الذي يقارن بين فضولي البغدادي ونفعي الأرضروملي؟ ورغم أنّ السلطان مراد الرابع هو الذي قتل الشاعر نفعي، إلّا أنّ الشاعر كتب له أشعاراً جميلة بسبب استرداده لبغداد.
بعد سنوات من أخذ الإنكليز للعراق، تأسّست الجمهورية العراقية، وصارت تتكوّن اليوم من 18 مدينة: بغداد، الموصل، البصرة، كركوك، السليمانية، أكرا، كربلاء، نجف، تكريت، الناصرية، الحلّة، سامراء، ديالى. يعيش اليوم في العراق الذي يبلغ عدد سكانه 12 مليون نسمة، بينهم مليونان ونصف من الأكراد، ومليون تركماني (البعض يقول مليون ونصف وآخرون يقولون نصف مليون) و300 ألف سرياني.
- فصل من كتاب “الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة: رحلة مصر والعراق” الحاصل على “جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة” (2020 – 2021) في فرع “الريبورتاج الرحلي المترجم – الرحلة الصحافية”، والذي يصدر قريباً.
عزيز نيسين
ترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير
Comments are closed.