المكتب الرئيسي عدن

ماري لويزه كاشنيتس… حين أقول ألمانيا

من الجائز، بطبيعة الحال، تقديم شخصيّة أدبيّة بإيجازٍ يخلو من ذكر زمن ومكان ولادتِها ورحيلها. ولن يكون لذلك، في الغالب، أيّ أثرٍ يُذكَر على عمليّة تلقّي نصوصِها؛ سيقتصر أثر ذلك، غالباً، على حيّز السيرة الذاتيّة للشخصيّة، أي لن يفتقد القارئ بذلك سوى معلوماتٍ سيريّة، وهذا ما يمكن تجاوزه في معظم الأحيان.

غير أنّ إضاءة هذا الوجه السِّيريّ تغدو في حالة بعض الشخصيّات الأدبيّة أمراً بالغ الأهميّة، إذ من شأنها أن تُقرّب القارئ من النتاجِ الأدبي الماثل أمامه بصورةٍ جوهريّة من خلال إحاطته بالسياق التاريخيّ الذي أفنت الشخصيّة الأدبيّة في خضمّه حياتَها وأتمّت في تأثيرِه مُنجَزها. وهذا ينطبقُ، بالمقام الأوّل، على أبناء وبنات المراحل التاريخيّة العاصفة، تماماً كما في حالة الشاعرة الألمانيّة ماري لويزه كاشنيتس Marie Luise Kaschnitz، والتي وُلدت في مدينة كالرس روهه الألمانيّة عام 1901 ورحلت في روما عام 1971؛ فقد بلغت مع أوّل حربٍ كونيّةٍ واكتهلت مع الحربِ الكونيّة الثانيّة لتغادر الحياةَ في “زمهرير” حربٍ كونيّة ثالثة. وخلال هذه الحروب كلّها كانت بلادها، ألمانيا، جبهةً أماميّةً دونما مواربة.

أنفقت كاشنيتس سبعين سنة في عالمٍ يجوبُه العوزُ ويطرقُ القتلُ بوّاباته بلا رحمةٍ، في عالمٍ مُقفلٍ على إثنياتٍ وأقوام وجيوش مُتناحرة، في عالمٍ “نوويّ” شريدٍ هدّ دويُّ الأسلحة مغربه ومشرقه.

تضعنا قراءة ماري لويزه كاشنيتس إزاء تجربةٍ إنسانيّة مُرِّغت في أرضِ عالمٍ قاس، لكنّها، في الوقت عينه، تضعنا أمام تجربة أدبيّة ثريّة جمعت الشّعر بالنثرِ والمخيّلة بالذكاء، ومخزون الثقافة ببداهة الفطرة، وحاولت، بمثابرةٍ، تسليط عين الفنِّ الرهيفة على واقع صلدٍ وعنيفٍ، وقد أفلحت في ذلك إلى حدٍّ بعيد.

لـ كاشنيتس نصوصٌ شعريّة وقصصية وأخرى ذات طابع سيريّ نالت اهتماماً بالغاً، لا سيّما بعد الحرب الكونيّة الثانية وهزيمة النازيّة، التي، حسب قولِها، كانت تُخيفُها، ما دفعها إلى “الهجرة الداخليّة” – والهجرة الداخلية اصطلاحٌ يُطلَقُ على موقف المُثقّفين الألمان الذين لم ينحازوا إلى النازيّة، بل كانوا في ذواتِهم معارضين لأيديولوجيّتها، لكنّهم لم يغادروا ألمانيا كما فعل كثيرٌ من المثقّفين الألمان في تلك الحقبة.

هنا ترجمة لمجموعة من قصائدها عن الألمانية.

هيروشيما

مَن رمى الموتَ فوق هيروشيما
مضى إلى الديرِ،
يقرعُ هناك الأجراس.
مَن رمى الموتَ فوق هيروشيما
قفزَ من المقعد إلى الأنشوطة،
خنقَ نفسه.
مَن رمى الموتَ فوق هيروشيما
وقعَ في الجنونِ، يدفعُ عن نفسه الأشباح،
مئة ألفٍ يهاجمونه في الليل،
مُبعَثين من الغبارِ لأجله.

لا شيء من ذلك كلِّه حقيقيٌّ.
فحسبُ منذ قليل رأيتُه
في حديقةِ بيته قبل المدينة.

الأسيجة النباتيّة كانت ما تزال يافعةً
وشجيرات الزهورِ رقيقةً.
إنّها لا تنمو بسرعةٍ تمكِّن المرءَ من الاختباءِ
في غابةِ النسيان.
مرئياً بصورة جيّدةٍ كان
بيت الضواحي العاري، المرأة اليافعة
في الفستانِ المُزهرِ بجانبه،
الفتاة الصغيرة ماسكةً بيدِها،
الصبيُّ الجالسُ على ظهره
مُؤرجحاً فوق رأسِهِ
السوطَ.

وكان يمكن بصورةٍ جيّدةٍ جداً
التعرّف عليه هو نفسه
بأرجل أربعة فوق الساحة العشبيّة
ووجهٍ شوّهه الضحكُ،
لأن المُصوِّر كانَ خلف السياجِ النباتيِّ واقفاً،
عينُ العالم.

■ ■ ■

ثمارُ الشّتاء

وحدتي لا تزالُ صغيرةً، طفلةً.
لا تعرفُ
كيف يبني المرءُ أكواخ الثلجِ،
كيف يختبئُ المرءُ في الكهف.

الجُزر التي أريدُ أن أستقرّ فيها
تختفي مُغرغرةً في الماءِ.
كلّ يومٍ تهتزُّ الأرضُ
كلّ ليلةٍ تأتي الرياحُ.
خصومي يمزّقون السياجَ المصنوعَ
من وردة الأحلام،
الخشخاش.

يصلحون كشّافةً
أولئكَ الذين ما عادوا يعرفون
كلمات الحب، وكلمات الترحاب.
في مواقعهم الخاسرة
يظلّون واقفين
ينادون “مَن هُناك”
ويكلّمون الأشباحَ.

حين يثبُ إليهم الموتُ
مُطَقطِقاً الصقيعَ
تسقطُ نحوه، من الشجيرات السوداء،
ثمارُ الشتاء
مُحاطةً بغبارِ الثلجِ الماسِيِّ.

■ ■ ■

الستارة الزرقاء

ماذا جرى للجبال
والأنهر المنتفخة
مذ ذوى لساني
مذ تحرثُ يداي الأرض
بحثاً عن عينيك
مذ يهمسُ صوتي شيئاً واحداً فحسب ويتلعثمُ
موتك…

الجبال غرقتْ
الأنهر جفّت
الشّمسُ الغاربةُ لم تعد حمراء
الصفصافةُ ما عادت تلمعُ خضراءَ كطائرِ الكُعتُرِ،
أوّاهٍ حين يجيءُ حزيران بوروده الرماديّة.

ومع ذلك فعالمنا نحن الناجين جميلٌ
أيضاً في الدروبِ التي أُزيلت عنها آثارُنا
يُزهرُ الزعرورُ
والأحاديث التي لم تعد تعرفُ عنّا شيئاً
ما برحتْ مليئةً بالحبِّ.

أن أنادي ما غرقَ، أريدُ،
أن أحيي ما قُتِلَ
لتُومضَ ثانيةً أضواءُ الطريقِ السّريع
التي تلاقت عند هضبة شجرِ الكرزِ
وقتَ دفعت الريحُ الستارةَ إلى الغرفةِ
الراية التي بأزرقِ البحر.

■ ■ ■

كلُّ أحد
(إلى إيريش كاوفمان)

كلُّ أحدٍ يجبُ أن يتغنّى مرّةً بوطنِه،
أن يدنِّسَ عشَّهُ.
أيضاً أنا.
الوطنُ، هذه القطعةُ الصّغيرةُ من أوروبا،
حيث ما عادت الفتياتُ يحببنَ الجنودَ،
حيث الجنود ما عادوا يحبّون أنفسهم.
كم غريبٌ ذلك.

ماذا يخطرُ في بالي حين أقولُ ألمانيا؟
طريقي إلى العمل
من حديقة فايمار.
القلب الأخضر.
الليلكُ في بيلفيدير.
تيفورت. الرقصُ بخطى مجلجلة.
تلميذُ باوهاوس.
الباليه الثلاثي.

وماذا يخطرُ لي بعد؟
السهولُ صيفاً.
والأبراجُ الباديةُ
خلف الهضاب الفسيحة.
الفيستولا أثناء الفيضان.
الأسقفُ المُنجرفةُ بعجالة.
الأشجار مُقتلَعةً.
وأيضاً منطقة الراين السفلى.

كسانتن.
الجثة المدفوعة.
السماء الكبيرة.
وقبل كلّ شيء وطني.
أشجار الجوز، الزيزفون أسفل سماءٍ رعدية عاصفة.
براميل الخمرِ
موضوعة أمام الأبوابِ للكَبرَتةِ.
العقابُ ذو الرأسين في الشِعارِ.
الدفلى.

وماذا غير ذلك؟
راياتُ الصليب المعقوف.
خطى الجزمات الهادرة.
الخوفُ الهامسُ.
قطاراتٌ على طول نهر اللان
ملآى بجنودٍ لا يغنّون.
قطاراتُ اليهود.
انفجارات. ما يُسمّى بأشجارِ المسيح.
رمادٌ على رماد.

ومن ثم كلّ شيء مجدّداً
مسحوباً من الأرض.
أبنيةٌ عالية، أفرانٌ لافحة، مدن عالية، طرق سريعة.
إجازات خارج البلاد. الرفاق القدامى.
مزاجٌ منشرح في “نادي باخ”.

ومع ذلك، قرني قد أفلَ،
من أسوارِ الأسلاكِ الشائكةِ
لن يكسبَ أحدٌ المالَ بعد الآن.
في هذه الجهة كما على الجهة الأخرى من الحدود
تعني الكلماتُ الشيءَ ذاته.
الأوطان ومشاعر الذنب القديمة
لعبتْ آخرَ أوراقها.
ترجمة وتقديم: سوار ملا

Comments are closed.