المكتب الرئيسي عدن

نجوان درويش في “كُرسيّ على سُور عَكّا”: غُزاةٌ يُعَقّمونَ مُعجَم البُلدان

“كُرسيّ على سُور عَكّا” ثامن مجموعات الزميل، الشاعر الفلسطيني نجوان درويش، الصادرة هذا العام في طبعة مشتركة عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت و”دار الفيل” في القدس المحتلة، بعد ثلاث مجموعات أَصدرتها الداران للشاعر في السنوات الأخيرة: “استيقظنا مرّةً في الجنّة” (2020)، “كلّما اقتربت مِنْ عاصفة” و”تَعِبَ المُعلَّقون” (2018).

كُتبت قصائد المجموعة الشعرية الجديدة التي تقع في 120 صفحة بين أيار/ مايو وكانون الأول/ ديسمبر 2016 وتتوزّع القصائد على سبعة فصول. تنطلق قصائد نجوان من علاقة إشكالية حادّة مع مكان يعيش مأساة مستمرّة، هو فلسطين المحتلة، وتنفتح القصائد على موضوعاتٍ مثل المنفى والهجران والذاكرة إلى جانب سعيه إلى تحديد صلاته بالوجود. كما تحضُر جغرافية الساحل الفلسطيني وذاكرة مُدنه وقُراه، حيث يعيد الشاعر، بصوت فردي خاص، امتلاك مكانه وذاكرته وحيّزِهِ الحضاري العربي المتوسطي، في مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني. نقرأ في الفصل الأول “ماذا يَغْسِل المَوج؟”:

“صحيحٌ أَنَّ راياتِ الغُزاة تبدو مِثْلَ قَذَىً في العَيْن
لكِنّي إذ أَكونُ بين أَهلِها الباقين
وأُفكِّر بأَهلِها المُبْعَدين
أُغْمِضُ عَينيَّ
كثيراً أُغْمِضُهُما
لا قَذَىً يُمْكِنُهُ أَنْ يطالَ هذا الجَمال”

يطغى هاجس بناء قصيدة تنتمي إلى زمنها على أي هاجس آخر

يكتب نجوان قصيدةً تنتمي إلى زمنها، وتتحقق لديه إحدى وظائف الشعر في أن يكون صوت عصرهِ. من خلال تناصٍ مع عددٍ من التجارب الشعرية يبدو سليل شعراءٍ قدامى، كأنما يبني قصيدته الحديثة على قصائدهم. في الفصل الثاني بعنوان “حَجيجٌ صاخِب مِنْ طُيورٍ غَريبة” تناصٌّ ومُعارضة مع التراث الشعري العربي في قصائد مثل “طافَ يبغي نجوةً” التي تحيل إلى الشاعر الجاهلي السّليك بن السّلكة ومرثية أُمّه له، وصولاً إلى “حداء مع بدوي الجبل” أحد أبرز شعراء القرن العشرين الكلاسيكيين. وفي قصيدة بعنوان “عِناق” نقرأ:

“مُرْتَبِكٌ ومُبَلَّلٌ
يَدي تَمَزَّقَتْ
وهِيَ تُحاوِلُ مُعانَقَةَ جِبالٍ ووديانٍ وسُهول
والبَحْرُ الذي أَحْبَبْتُهُ أَغْرَقَني مِراراً
وما كانَ جَسَدَ العاشِقِ صارَ جُثّةً
تَطْفو على المِياه

مُرْتَبِكٌ ومُبَلَّلٌ
جُثَّتي هيَ الأُخرى
تَمُدُّ ذِراعَها
مُسْتَميتَةً

لِعِناقِ البَحْرِ الذي أَغْرَقَها”


نجوان شاعرٌ ينادي الآخرين، وهو مسكونٌ بتغريبةِ أهلهِ. شعرهُ دراميّ، دون أن يكون شعراً مباشراً بأية حال. دراما من تفرّعاتها مقاومة الشعور بأنّه وحيدٌ في بلدهِ أو في موقفه، كما في قصيدته التي يقف فيها عند ضريح عز الدين القسّام: “يا ربّ/ حَتَّى في المَقْبَرَة أَقِفُ وحيداً؟”. يقف على أطلال “تلّ السمك” و”وادي الصليب” محاكياً أطلال الجاهلية، أو “تذكُّر بيت لحافظ إبراهيم على شاطئ حيفا”. وفي وقوفه توقّدٌ لا ينطفئ للمأساة التي أحدثها المشروع الاستعماري.

في قصيدتهِ “رجلٌ فانٍ” يستسلم إلى مصيره في كون ثرثرته – التي هي أصداء مكان يكاد يخلو من أهلهِ – ثرثرة خالدة. شعر نجوان مرتبط بلحظة راهنة، ومن خلال ارتباطهِ الفنّي بها، يجعل منها لحظة خالدة. إذاً، ينجح الشاعر في صياغة الإيهام الشعري الذي يجعل من اللحظة العابرة لحظةً أبديّة:

“مَنْ أَنا؟”، قُلْتُ لِنَفْسي
لكِنَّها لَمْ تَكُنْ تَنْتَبِهُ لثَرْثَرَةِ رَجُلٍ فانٍ
كان الأَبدُ زِنْزانتَها الانْفِرادِيَّةَ
والخُلودُ كانَ وَحْدَهُ يُهِمُّها…”

تبني محدّدات عدة خصوصيّة شعر نجوان، قصيدتهُ قوية، لكنّ قوتها لا تجيء من الموضوعات الرهيفة التي قد يختارها خاصّةً في قصائد الفصل الثالث “إِلهَاتٌ صَغيرات يَعُدْنَ خِلْسَةً” حيث تكشف عناوين القصائد عن العالم الشعري الذي تتحرّك فيه مثل: “في الهِجران”، “نجمةٌ مِنْ أَرض المَوتى”، “في النّسيان”، وإنّما من أسلوبه الذي ينطوي على عنفٍ من نوعٍ خاص. وهو عنف يجيء من التحديد، إذ يختار مفردات، ثمّ يجرّبها في تراكيب عديدة. قبل أن يضع أمام القارئ الشكل الذي رآه للتعبير عما يريد. والعنف الذي تنطوي عليه القصائد هو عنف الشاعر في تقديمه للقارئ قصيدةً منتهية بصورة حاسمة. قصيدته التي تبدو مليئة بالاحتمالات والاستعمالات المتنوّعة لمفردة واحدة، تنتهي بصورة قطعية. يترك هذا البَتّ لدى القارئ انطباعاً بالصنعة التي يحترفها صاحب “فَبْرَكَة”:

“أَتَذَكَّرُكَ في الهِجْران
وأَتَهَجَّرُكَ بُكْرَةً وأَصيلاً
أَتَهَجَّرُكَ في أَماسِيَ لا يُبْصِرُ النّاسُ أَصحابَها
أَتَهَجَّرُكَ وأَنْساكَ بَلداً يَتَهَجَّرُ
مِنْ تِلْقاء نَفْسِهِ
بَلَداً هوَ الهِجْران نَفْسُهُ

في البَدْءِ لَمْ تَكُنِ الكَلِمَةُ
كانَ الهِجْران”

يرتبط بلحظة راهنة يجعل منها الشعر لحظة خالدة

تحضر جغرافية شرق آسيا وأشجارها وثقافتها، في الفصل الرابع المعنون بـ “جُرْحٌ على رَقَبةِ الكَرْمِل”. وفي قصائد هذا الفصل أكثر من سِواه، يتضح استخدام اللغة – التي هي تواصل – ضمن مشاغلهِ الشعرية، يبحث نجوان عمّا يجمعهُ بالآخرين، عمّا يجعله جزءاً منهم. نرى ذلك في قصيدته “أَنا شَبَحٌ وأَعرف عَمّا أَتحدّث”: “الأَشْباحُ تُحاوِلُ أَنْ تَنْسى/ وحينَ تَلْتَقي في جَماعاتٍ/ فهيَ تَلْتَقي لِتَنْسى/ تَشْرَبُ الشّاي/ وتَقْرَأُ القَصائدَ على مَسامِعِ بَعْضِها/ لِتَنْسى”. التئام الشاعر إلى الجماعة ما يلبث أن يُثقل عليه. وهو في سعي دائم لتحقيق فرديّتهِ التي سرعان ما تدفعه إلى “زِنْزانةِ الفَنِّ الانفِراديّة”. من عناوين قصائده هذا الفصل “أَمطار كوروساوا”، “في مديح التّجربة”، “قصيدة العودة إِلى البيت”، حيث نقرأ تحت عنوان “شُكر الفلّاح الصّيني”:

“كَيْفَ أَشْكُرُ الفَلّاحَ الصّينيّ
وأَنا لا أَعْرِفُ اسْمَهُ ولا عُنْوانَه
سائقُ الباص تَوَقَّفَ عِنْدَ بَيْتِهِ بَعْدَ انعِطافَةِ الجَبَل
كُنْتُ مَريضاً أَكْثَرَ مِنَ المَطَر
وكان كَريماً مِثْلَ لَحْظَةِ الصَّحْو

كَيْفَ أَشْكُرُ الفَلّاحَ الصّينيّ
وأَنا لا أَعْرِفُ لُغَتَه”

أما في “مدينة سُكُّانُها خَطَواتُ صاحِبِها”، الفصل الخامس من المجموعة، فثمة حضورٌ لملامح وذاكرات من بلدان البلقان وأميركا اللاتينية، في تناصّ وطِباق دائمين مع ذاكرة وجغرافية ومقاومة فلسطين. “أَنْتِغوا، أَنْتِغوا… الاسْمُ يَسْتَغيث/ في لُغَةٍ بَتَرَ المُسْتَعْمِرونَ أَعضاءَها على الخَريطَةِ/ التي يَدُسُّها سائحٌ في جَيْبِ بِنْطالِهِ”. ومن عناوين القصائد: “لحن عثماني”، “قُرب مَرْقَد القِدّيس ناعوم في مقدونيا”، “صخرة يوليا”، ونقرأ في قصيدة “أَمام كنيسة في مستوطَنة أَنْتِغوا” التي تسجّل تجربة الغزو الإسباني لغواتيمالا من خلال حديث مع فلاحة فلسطينية هي مريم العذراء:

“فَلّاحَةٌ فلسطينيّة ثَكِلَتْ إِلهَاً
حَمَلَتِ النّورَ والظُّلْمَةَ إِلى بِلاد المَايا والأَزْتِك
مُنْذُ أَلْفَي سَنَة وهُمْ يَمْنَعونَ تِمْثالَهَا مِنَ الكَلام

يَمْنَعونَها مِنْ أَنْ تَقولَ قِصَّتَها
فَلّاحَةٌ فلسطينيّة صغيرة ثَكِلَتْ إِلهَاً وتَغَرَّبَتْ
مُنْذُ أَلفي سَنة وهِيَ مُقيَّدةٌ بالحَجَرِ والطّين
سَجينةُ تَماثيلِها الصّامِتة
لا تَتَكَلّمُ التي ثَكِلَتْ إِلهَاً
إِلّا حينَ يَصِلُ زائرٌ مِنْ قَرْيَتِها
يَحْمِلُ قَناني الزَّيْت وطَحَينَ اللُّجوء،
عِنَباً ذابِلاً مِنَ الخَليلِ
وشِباكاً مُمَزَّقةً مِنْ بَحْرِ الجَليل

فَلّاحَةٌ ثَكْلى
تَنْزِلُ مِنْ تِمْثالِهَا وتَمْسَحُ دُموعَ الزّائر”

يخرج صوت نجوان درويش من التجربة الفلسطينية بهوية مختلفة عن شعر القضية الذي عهده القارئ عند قراءة الشعر الفلسطيني، مُجَدِّدٌ، يطغى هاجسهُ الشعري لبناء قصيدة تنتمي إلى زمنها على أي هاجس آخر. في الفصل السادس “حُجْرَةٌ بيضاء مِنَ الصّمت” الذي يضم عشرين قصيدة مُعنوَنة بأَرقام، وعبر صورٍ شعريّة مكثفّة تشير إلى حالات اغتراب أو حيرة أو منفى، مثل: “جِبالٌ تَتَهاوى في رأسي” وفي قصيدة أخرى “أَفْلَتَتِ الأَرضُ مِنْ يَدي”. لكنّها آمال شاعر خَيّبهُ الوجود، كما لو أنّ صلاتهُ التي عَزم على عقدها مع الوجود، قد تقطّعت به. يسائل الشاعر الذي تمتد تجربته الشعرية لعقدين قصيدتَه التي بدت كرسالة شاعر ينادي، غير أنّ نداءهُ لم يعد عليهِ حتّى وَلو رَجْعَ صدى: “أَينَ جُمْلَتي المُطوَّقَةُ بالبُحَيْرات؟”. نقرأ في إِحدى قصائد هذا الفصل:

“خَيَّرْتُكِ مِراراً
إِمّا أَنْ تَتَزوَّجيني أَو تَتَزوَّجي الصَّيْف
لَيْسَ عِنْدي كُرومٌ وبَساتينُ وشواطئُ مِثْلَه
كُلُّ ما أَعِدُكِ به حُجْرَةٌ بيضاءُ مِنَ الصَّمْت
الأَصيافُ كُلُّها لَيْسَ بها حُجْرَةٌ بيضاء كالتي أَعِدُكِ بها

رَغْمَ ذلك، تُفَضِّلينَ عَلَيَّ إِقطاعيّاً
وتَتَزَوَّجينَ الصَّيْف”

في الفصل السابع والأخير، يعود الشاعر إلى انتماءاتهِ الأولى، إلى لغةِ أهلهِ، وقبل ذلك إلى الطبيعة التي يتناوب فيها التعبير بين الكلام والصمت “الأَشجارُ تُغَنّي مِثْلَما يُغَنّي النّاس/ والصَّمْتُ يَتَرَقْرَقُ في كورالِ النَّسيم”. في نهاية المجموعة بدا أنّ صاحب “لستَ شاعراً في غرناطة” يبحث عن شيء خاص به أكثر من سِواه. ومن عناوين هذه المجموعة: “أَضَعُ كُرْسِيّاً مِنَ القَشّ وأَجْلِسُ”، و”رسالة مِنْ عين الدّفلى”، و”في الطَّريق إِلى بيتها”. نقرأ في قصيدة “كلام عند مدخل القدس”:

“يا سيّدي، أَنا، رسولُ الله قَيَّدَني بين القُدْسِ ومَكّةَ
لا أَسْتَطيعُ أَنْ أَبْرَحَ الفَضاءَ الذي بَيْنَهُما.
إِنَّني أَنْتَظِرُه

وإنَّ أَرْضَاً لا يَهْبِطُ البُراقُ فيها لَسْتُ بِساكِنِها…
لكِنّي في بَعْضِ كَوابيسي
أَرى غُزاةً يُعَقِّمونَ مُعْجَمَ البُلدان مِنْ لُغَةِ العَرَب
أَراها وقْدَ صارت كُلُّها “شِعْبَ بَوانٍ”
حَيْثُ “الفَتى العَرَبيُّ فيها غَريبُ اليَدِ والوَجْهِ…” كما تَعْرِف
فأَسْتَيْقِظُ وأَنا أَرتَجِف وأَقولُ لنَفْسي:
لا تَبْقَيْ في أَرْضٍ يُقْطَعُ فيها لِسانُ العَرَب
لا تَبْقَيْ في أَرضٍ تُمْسَحُ فيها لُغَتُهُم
عَنْ شَواهِدِ قُبُورِهِم

ثُمَّ ما مكّةُ والقُدُس مِنْ دونِ لُغَتِهِم؟”

يُذكر أن ترجمة إيطالية لـ “كُرسيّ على سُور عَكّا” قد صدرت عن منشورات “إلى” في ميلانو بالتزامن مع الطبعة العربية، كما صدرت للشاعر طبعة ثانية من مجموعته “استيقظنا مرّةً في الجنّة” عن “دار دَرَج” في بغداد. وعلى صعيد الترجمة صدرت له، هذا العام أيضاً، مجموعة “تَعِبَ المُعلَّقون” مُترجمة إلى الإنكليزية عن دار “نيويورك ريفيو بوكس” في نيويورك (بعنوان “مُرهَقٌ على الصليب”)، ومختارات باللغة الإسبانية تحت عنوان “كلمة مُضادّة” عن “منشورات متنزاس” في كوبا، ومختارات شعرية باليونانية بعنوان “بِلا” عن “منشورات باراكنترو” في قبرص، ومختارات شعرية بالألبانية تحت عنوان “بلدٌ يسمّى الأُغنية” عن “معهد الدراسات الشرقية” في بريشتينا، وأخيراً ترجمة إيطالية لديوان “استيقظنا مرّةً في الجنّة” عن دار “إيل بونتي ديل سالي” الإيطالية.

  • كاتب من سورية
  • سومر شحادة

Comments are closed.