يوميات القدس: أبو أكرم.. رائحة البلاد وخيرها
شيخ في الثمانين. نحيف، حتى لتصدق عليه تلك الصفة: “جلد على عظم”. جاءنا مصاباً بسرطان الحنجرة، وغدا أقدم نزيل في الفندق. له الآن حوالي أربعة شهور. علامته الفارقة، ليست النحافة، إنما هذه “الصفّارة في وسط عنقه”. يقوم وينام، وهي معه كالقدر. بعض الأحيان، إذ يغيب صوته، يقفل فتحة الأنبوبة البلاستك في الصفّارة، بإبهامه، فيعود له الصوت. صحيح يعود مبحوحاً، لكنّه يؤدّي الغرض.
أَنستُ له. وصرنا نبحث عن بعضنا بعضاً، ونخرج نتمشّى في الجوار.
أبو أكرم نموذج أصلي للفلّاح الفلسطيني القديم. تشمّ في ثوبه رائحة خير البلاد. وهو غير تقليدي بالمرّة، رغم لبْسه الشعبي.
أمضى ستّين سنة من عمره سائقاً على سيارات الأجرة. وتنقّل، حسب ظروف البلد، فعمل في غزّة وبلادنا المحتلّة عام 1948 واليمن والسعودية وكوم أمبو بأسوان، أثناء بناء السدّ العالي.
“قطّع السمكة بذيلها”، كما تقول أم أكرم، زوجته الأولى العتيقة. ولم يجد بَرَكة إلا هيَ، فعاد إليها، بعد أن طلّق زوجاته الثلاث – مصريتيْن وغزّاوية.
وأم أكرم معه الآن وتقوم بالخدمة عليه.
يعرف فلسطين، من رأس الناقورة حتى رفح، بلدةً بلدة ومدينةً مدينة. ويعرف أسماء نباتها وطيرها وعائلاتها.
لم يدخل مدرسة. لكنه يتكلّم لغتين، ويجيد نطق العديد من لهجات العرب.
وفوق ذلك، فأبو أكرم أذكى وأحَدُّ وعياً من جميع نزلاء الفندق الذين عاشرتهم. “يشمّها وهي طايرة”، كما يقال. وله آراء في “حماس” و”فتح”، لا تسرّ الطرفين، خاصّةً الأولى.
رجل يتمتّع بحدس وفراسة لا تخيبان. يكفيه أن يتكلّم أو يستمع لأحد، بضع دقائق، حتى يروزه ويزنه، ويعطيك رأيه فيه.
شعبيّ، لا شعبويّ. بصيرته تليق بفنان راءٍ. ولا أهيل عليه هذه الصفات عبثاً. فهو من ندرة من البشر، مرّوا في نهر حياتي واستوقفوني لغير سبب.
عفيف النفس، وأكثر ما يكره في البشر: رُخص النفوس. كلّما جاء فاعل خير بتبرّع للنزلاء، ملابسَ أو نقوداً أو طعاماً، ورأى تكالُب بعضهم، وأنانيتهم في التقسيم، استشاط غضباً وأطلق العنان للسانه بالسُّباب.
وسبابه مؤذٍ لأنه حقيقي. فلا يصف أحداً بصفة إلّا وتكون فيه. لا يفجُر أبداً. بيد أنه لا يسبّ بعض هذا البعض في وجهه دائماً، إنما حسب نوعية هذا البعض. فمنهم مَن يمكن أن ينزل الدم لو سمع شتيمته بأذنه. لذا يشتمهم أبو أكرم في ظهورهم. أمّا البعض الآخر، ممّن يمكن أن يتحمّلوه، نظراً لسنّه وشيخوخته، أو لمعرفته، فلا يرحمهم مطلقاً.
الجثّة، حين تموت في غير تربتها، تستوحش يا ولدي
كلما نزلتُ معه وجلسنا على أرض معشوشبة (بخاصّة في المطّلع) أراه نسيني ورجع إلى الفلّاح القديم في شخصيته: يحفر على الحصى ويخلعه من مكانه ويرميه: يشذّب الحشائش والفسائل، ينقل طينة من هنا إلى هناك، في هذا الموضع أو ذاك، ولا يني، حتى أناديه لنذهب إلى شأن من شؤوننا.
مرّة رأيته يتذوّق طين التربة، فاستغربت، لكنّه بلعها وبكى!
- يا ولدي، أشمّ فيها ريحة البلاد (يقصد قريته التي هُجِّر منها عام النكبة).
- من أية قرية أنت؟
ويذكر اسم القرية، ويعود ليلعب بالحصى والتربة الحمراء.
وفي سياق آخر، يقول لي: أغار ولا أحسد. بمعنى أنه يجتهد مثل المجتهدين، لكنه لا يتمنّى زوال نعمتهم. لذلك، فقد اشترى من تاجر جملة في خان الزيت، كيسين من الصنادل والأحذية، بحوالي ألف دولار، كي يبيعهما في غزة، فيربح من ورائهما 500 دولار أو أكثر.
وهو أفضل مَن يشتري لك قطّيناً (تيناً مجفّفاً). فهو خبير فيه، وليس في القطّين فحسب، بل في كلّ شيء: الجزَم، السيارات، إلى آخره. ودائماً ما تجد شيئاً من الفواكه المجفّفة في جيب معطفه: مشمش، قطّين، لوز. مع أنه صار، بعد تلقّي العلاج، لا يقرب النعمة. بالكاد لقمتين على الفطور، ومثلهما على الغداء، وصحن شوربة عدس أو لحم، على العشاء.
صاحي، ولا أحد يغلبه أو يضحك عليه، لكنه أمين جدّاً ولا يقبل بمال حرام يدخل جوفه.
فقبل أسبوع، في صفقة شراء الأحذية والصنادل، تلخبط معه التاجر الخليلي بنحو مئة دولار، فأرجعهم إليه، وأنّبَه على قلّة انتباهه.
كلّ مساء، بعد صلاة العشاء في المسجد القريب، يأتي ويلعب الشّدّة مع أخي واثنين من الجيران. ينقسمون فريقين، ويلعبون حتى الحادية عشرة أو تزيد قليلاً. “لا يُحرّق من غُلبْ”، شأن الآخرين. فهو يلعب “لتزجية الوقت لا غير”. وخاصة وقت الشتاء الطويل. ومع أنه هاوي لعب لا محترف، مثل زملائه الثلاثة، إلّا أنه يغلبهم غالباً، فهو محظوظ في الورق. الأمر الذي يثير ويغضب الفريق الثاني، وخاصّةً أخي!
نضحك على طريقته في مسك الأوراق وترتيبها. فورقه دائماً مكشوف، وحين ينزل يتلخبط في نوعية الأوراق، فيعيدونها إليه أو يساعدونه.
أبو أكرم يعتبر غضبهم قلّة عقل وفضاوة بال. فيأخذ في تقريعهم بلا هوادة بعضّ الوقت. ولا يندر أن مَن يقع عليه التقريع، يحاربه ويقطع علاقته معه!
- تفهْ عن صحيح!
ومع هذا يغفر لهم، ويصالحهم “بعد كام يوم”. فهم في وجهه، مصابحين مماسين، فأين المفر، وهل ثمة غيرهم، ليتسلّى.. ظروف!
والظروف تحكم بجدّ. فأنت في هذا الفندق، ترى المالحة والحلوة، من كلّ ما هبّ ودبّ. وعليك أن تتدبّر أمرك، فلا تنشز أو تعتزل.
- ليش يابو أكرم؟
- الحياة بدها مداراة يا ولدي، ثم إنّ ليل الشتاء طويل وثقيل!
- يا شيخ عندك أم أكرم، صلاة النبي عليها.
- إذا عاجباك، هات 5 شيكل وخذها (ويلوّح بأصابع كفّه الخمس!)
أضحك وأمزح معه. لكنه وسط المزاح، يفاجئك، فيأخذ بطرف من الموضوع ويحوّله إلى جدّ. وتلك عبقريته. رجل بخبرة صيّاد محترف.
حين أعطوه العلاج الكيماوي، وعانى من تلك المضاعفات الرهيبة، صار يصرخ في وجوه الممرّضات والدكاترة: “بدّي أموت، زهقت، بدي أموت!”.
ذهبت لأساعد الممرّضات، كوني عزيزاً عليه، فواصل غضبه الملجوم:
“وكتيش ياخذني ويريّحني!”، يقصد الله.
رهيب هو العلاج الكيماوي، وخصوصاً على امرئ في سنّه. في سنّه فقط؟ كلّا، بل في جميع الأعمار. فمحمد أبو لبن، الذي سأتكلّم عنه لاحقاً، يحدّثني قصصاً فظيعة عن مضاعفات هذا العلاج، وبخاصّة النوع المُسمّى “الجنزارة”. إنه يجعلك تستفرغ حتى أمعاءك. يجعلك كالمتوحّمات، تطلب ما يخطر وما لا يخطر على بال.
أعانك الله يا أبا أكرم.
تقول أم أكرم: إنه يخشى الموت ويخافه. لذا لا يحبّ الجلوس في الغرفة وحيداً، إمّا أن تكون هي معه، فإذا ذهبت لزيارة النزيلات الأخريات، يذهب هو إلى غرفتنا، أو تحت في الريسبشن. المهمّ أن يرى البشر ويحادثهم، ويأتنس بهم، حتى لو لم يعجبوه.
أبو أكرم صامت معظم الوقت، وبعد الكيماوي، صُدّت نفسه عن أشياء كثيرة، وصار يتطلّع إلى العودة إلى غزّة بشوق، فهو خائف أن يموت هنا بعيداً عن أولاده وأصدقائه وجيرانه. وخائف أكثر من أن يعود لهم جثّةً، كما حصل مع شقيق أبو رامي.
- الجثّة، حين تموت في غير تربتها، تستوحش يا ولدي.
- يا أبو أكرم! الجثة جثة: لا تشعر ولا تحسّ.
- غلطان! واسألني أنا. رأيت فلسطينية كثار ماتوا في الغربة، فكانت جثثهم يابسة زي عود الحطب.
- ربما تقصد أرواحهم.
- لا، أقصد ما أقول.
ولتكن هذه الكلمات سداداً لبعض ديْنك المستحَق عليّ
أبو أكرم، وهذه واحدة من علاماته الفارقة أيضاً، لا يحبّ رجال الدين، من الأديان الثلاثة. وهذا شيء نادر أن تراه في رجل بهذه السنّ. عمل معهم وخالطهم، ثم خرج بهذا الانطباع، ولا يمكن أن تزحزحه الجبال عن رأيه.
- كلّهم كَذَبة.
يقول لك إنه لا يتكّلم إلّا عن تجربة. ويسرد عشرات منها على مسمعك. ومع هذا، فهو غير نوعية “المختار فاروق”: إنه يواظب على الصلاة، وما أن تنتهي حتى يغادر الجامع فوراً. وإن كان بعد الكيماوي، صار يصلّي في غرفته.
ذات صباح، حدثت مشكلة بسبب صفّارته: مرّ صاحب الفندق الشاب، ولاحظ أنّ أبا أكرم يطيل الجلوس في الريسبشن، ولا يتورّع عن الكلام بصوت عالٍ وبالإشارات الفلّاحية من يديه، فاستاء الرجل، وأوعز إلى المنسّق الاجتماعي المسؤول عنّا، بتنبيه أبو أكرم، والطلب منه ألّا يجلس تحت، بسبب الصفّارة. فذلك يسيء لسمعة الفندق، ولمشاعر النزلاء الأجانب، حين يرون مرضى بصفّارات وأكياس بول خارجية!
استشاط أبو أكرم غضباً لكنّه في الأخير التزم.
وثاني يوم حكا المنسّق لأحدنا، عن أنّ أبي أكرم ينظف صفّارته من السوائل أمام النزلاء دون أن يحترز ويحترس! فأبو أكرم ينسى حاله.
سمع أبو أكرم بالقصّة فغضب، ثم عاد وخجل وسكت.
يحكي لي القصة، مقهوراً، فأقول له ما أعرف: “الفندق مراقَب بكاميرات على مدار الساعة يا بو أكرم. دير بالك على كل حركاتك”.
- ليش؟ هوّ نحن في سجن؟
- لسنا نحن فقط، فكلّ النزلاء في الفنادق، هنا، مراقبون.
وحين تكون غزالة أبي أكرم سارحة، فيا زود ما ننبسط. لا تفرغ جعبته من الحكايات والمواقف. بعضُها حدث في الجليل، ورام الله، وكوم أمبو، وجيزان، ولحج، وأخيراً غزّة. يحدّثك باستمتاع، ومزاج، ويغضب إذا غيّر أحد الجلّاس الموضوع. فإذا حدث هذا، يُشبّر بأصابع كفّيه العشر، ويهدّد المقصود بالحبس حين يرجع إلى غزّة!
- “سأحبسك في بيت خالتك”، ويؤشّر بيديه كنايةً عن الكلبشات، “فأنا مناسب الحكومة”.
وهذا صحيح. أبو أكرم مُزوّج بنت أخته لوزير في حكومة “حماس”. ثم بعد دقائق من هذا المزاح، يركب موجة الجدّ، ويدلق مئة شتيمة في حق “نسائبه”!
قبل موعد سفرنا بأسبوعين، صار يلحّ على مرافقتي طوال الوقت. وأنا أعرف لمَ؟ فأنا مستمع ومنصتٌ مثالي لقصصه وحكاياته، وأحسّ به دون كثير لغط. وعليه، فقد صرنا ننزل كلّ يوم، بعد الفروغ من الجلسة، إلى البلدة القديمة، أو إلى محلّ نظّارات بشارع صلاح الدين، كي أُصلح له النظارة مكسورة الإطار.
نذهب غالباً بلا هدف، غير الصحبة. نمرّ على الأسواق، ونشتري بعض الحاجيّات، ثم نزور الحرم أو الكنائس.
هو يرقب ما يرى بعين الصقر. يلاحظ الفروق بيننا وبين الأجانب، فيزفر ويقول: متى سيعيش أحفادي مثلهم؟ أقول له: وأنت؟ وأولادك؟ يقول: راحت علينا نحن، فلا أريد أن تروح على أحفادي!
أبو أكرم رجل حياة، إن جاز القول. وما صَلاته إلا تأدية واجب. هو يريد الحياة، ويهتمّ بما يحدث على الأرض، أكثر من أيّ شأن ديني أو سماوي. لكأنه يعرف الحقيقة، فإن لم يكن بالوعي، فبالحواس الخمس.
- راحت علينا يا ولدي.
- ماذا تقصد؟
- أقصد راحت على المسلمين.
- يا شيخ! لهم الآخرة كما يقولون.
- وهل أنت مصدّق!
- أنا لا أعرف. إيش قولك أنت؟
- أنا؟ سأقول لك ما أحس وأرى: مَن راحت عليه الدنيا، سيروح عليه كل شيء!
ونمشي في سوق خان الزيت، ونرى مزيداً من السيّاح، تبقّ من وجههم الصحّة والنضارة وطيب العيش، فيزفر أبو أكرم: - خير وخاتمة خير.
- سأزورك في بيتك بغزة، بعد عودتك.
- أمانة تزورني.
ويصرّ أن أكتب عنوانه في ورقة. ونفترق.
وأسمع بعد العودة بأسبوعين، أنّ أبا أكرم عاد هو الآخر. لكنّ مشاغل الدنيا تُبعدني عنه، فأقول لنفسي: لا بد أن أزوره يوماً. سأعملها مفاجأة له، فما زلت محتفظاً بالورقة. وبي شوق لسماع بقية قصصه وحكاياته، مَن يدري؟ ربما يموت بسرعة، فأندم على تقاعسي، كما حدث معي ذلك عشرات المرات، مع عشرات الأصدقاء.
وإلى أن نلتقي يا أبا أكرم، سلاماً، ولتكن هذه الكلمات، سداداً لبعض ديْنك المستحَق عليّ.
فإنّي، كلما تذكّرتك، يجري فجأة ينبوعُ محبّةٍ في روحي، وأتذكّر يسوع المسيح على جبل التطويبات:
“طوبى للنقية قلوبهم…، طوبى للودعاء لأنهم يرِثون”.
طوبى لأبي أكرم، ولمَن هم على غرار أبي أكرم، لأنهم “مِلْح” هذه الأرض: ملح فلسطين.
- شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنص حول تجربته في عام 2009
Comments are closed.