“أيام السلطان عبد الحميد الأخيرة”: سنوات التحوُّلات التركية
كثيراً ما يُعيد الأدبُ إحياء التاريخ واستلهامه، مُفرِداً صفحاته لزمن مضى بشخصياته وأحداثه وتفاصيله، مُتيحاً مقاربةً جديدة لتاريخ قريب أو بعيد. في هذا السياق، تأتي رواية “أيام السلطان عبد الحميد الأخيرة” بترجمة مباشرة من التركية لأحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير (الأهلية، 2021) لتُعيدنا إلى فترة زمنية شائكة من عمر الدولة العثمانية تغطّي عقدها الأخير (1908 – 1918) الذي شهد تحوُّلات جذرية مع صعود “جمعية الاتحاد والترقّي”، وعودة العمل بالدستور المعطَّل منذ 33 عاماً، وتنامي الصراعات المكشوفة بين القوى النافذة للتحُّكم في السُّلطة.
وإذا كنا قد قرأنا عن السلطان عبد الحميد (1842 – 1918) كتابات متناقضة وشاهدنا مسلسلات تقدّمه بصورة غرائبية، فلدينا الآن رواية للكاتب التركي المخضرم نهاد سري أوريك (1895 – 1960) تطرح صورةً مختلفة عن هذا السلطان. ورغم تصدّر اسم السلطان في عنوان الرواية، فإنّنا لا نعثر على حضوره الدائم الذي يكشف عن شخصيته وحياته وما لا نعرفه عنه، بل نراه في المرحلة الأخيرة من حكمه وما رافقها من أحداث انتهت إلى عزله.
تبدأ الرواية من لحظة فاصلة عام 1908، حين يتلقّى السلطان عبد الحميد تلغرافاً تهديدياً بضرورة إعادة تفعيل الدستور المجمَّد منذ 1878، وإلّا فإنّ ما سيحدث هو مبايعة شقيقة رشاد المسجون. وفي ظل أوضاع مشحونة بالخوف، تتمثّل بوجود حركات تمرُّد داخلي من جهة، وتربُّص عدوّ خارجي من جهة أُخرى، يوافق السلطان على ذلك لتجنُّب مشاكل أكبر تنتظر السلطنة، متفهّماً دهشة هيئة الباشوات حين أُبلِغوا بالأمر وخوفهم على مناصبهم وامتيازاتهم.
ترسم الرواية صورةً مختلفة عن السلطان عبد الحميد الثاني
في المقابل، يبتهج الناس في كلّ مكان بهذه الأخبار المفرحة، ويرفعون الأعلام في الدكاكين والميناء والقرى، ويتجمهرون وقد استمدّوا القوّة من الحرية والعهد الجديد، مطالِبين بإعلان العفو وعودة المنفيّين. وتأخذ “جمعية الاتحاد والترقّي” مسؤوليتها الجديدة عندما يطالبها الناس بمحاكمة الأشخاص الذين أبعدوا السلطان عن شعبه ومحاكمة المسؤولين الفاسدين. ولا يتوقّف صخب المدينة عن الاشتعال محرّكاً اجتماعات الباب العالي اليومية، ودافعاً شيخ الإسلام إلى القسم أمام المتظاهرين أنّ الخليفة سيلتزم الدستور.
هكذا ينتظر الناس التغييرات الموعودة، وترحّب الصحافة بالعهد الجديد. وحينما يخرج السلطان يوم الجمعة لتحية الناس، تلتفّ الجموع حوله مهلّلة مرحبة. وفي خطّ موازٍ، تزداد قوّة “جمعية الاتحاد والترقّي” المعارِضة وتكتسب أعداداً أكبر من المنتسبين إليها، وتمتلك القدرة على تغيير الصدر الأعظم، ووضع رجال الدولة السابقين في السجون والاستيلاء على ثرواتهم. وكانت رؤية الناس لهم وهم يغادرون إلى مصيرهم الجديد مودَّعين بالشتائم والبصاق يشي بعهد جديد.
وبدأت تجلّيات التغيير تظهر في الصحافة الحرّة الغاضبة، وتوجيه نقدها وشتائمها إلى بعض الباشاوات الذين نهبوا البلد وكدّسوا الثروات. وتختار الرواية من هؤلاء الباشا محمد شهاب الدين ليكون مرآة السلطنة وصورتها المرئية الكاشفة.
كان الباشا شهاب الدين منذ 65 عاماً قد عمل والياً في أكثر من مكان، وناظراً وفي مجلس الوكلاء. وعُرف عنه أنه الشخص الأول في جمع الثروات بعد السلطان عبد الحميد. كان يمتلك أموالاً في البنوك وعقارات وأملاكاً كثيرة تثير الشك في كونها حلالاً، رغم أنّه متديّن ويقرأ القرآن كلّ يوم. وأمام هذه النقاط السوداء في عصر التغيير، يطاوله النقد الحادّ في الصحافة، فتتناول مقالة عنه عمله وثروته، وكونه أوّل من استدان وحصل على العمولة وفرّط في حقوق الدولة، ولا تنسى الإشارة إلى سنّه المتقدمة ونومه في أثناء العمل، وتُعرّج على بنائه الجامع لمسح سيّئاته. ويأتي ردّه الصادم على ذلك باندهاشه كيف توصّل المنتقدون لأسرار الدولة، وكيف يحيون أشياء ميتة منذ ثلاثين عاماً! ثم ينزلق أكثر في تبرير قبوله للرشوة، بأنها كانت ستذهب لجيوب غير المسلمين إذا رفضها هو! وينتج من المقالة إخراجُه من مجلس الوكلاء، وترقّب مصير قاس بحقّه.
تدخل الرواية منعطفاً جديداً مع أدوار ستلعبها ابنة الباشا نعمات، الشابة المثقّفة والذكية، التي تتحفّز لإنقاذ والدها، فتُقرّر أن تحمل بنفسها ردّه على اتهامات المقالة له إلى مقرّ الجريدة. وهناك يكافئها القدر بلقاء شفيق، أكثر الأعضاء نفوذاً في هيئة الجريدة وفي “جمعية الاتحاد والترقّي”، وتنجح في الدفاع عن أبيها بقوّة المنطق، مستندة إلى الدستور لحمايته وعائلتها. وعندما ترفع البرقع عن وجهها الجميل، فإنها تربك شفيق وتستنهضه ليصلح الأمر ويمنع الأذى عن الباشا.
أمّا شفيق، زوجُ نعمات المستقبلي، فهو رجل من عائلة بسيطة من أدرنة، وابنُ رجل دين فقير، لكنّه أصبح رائداً في الجيش وعضواً في هيئة الجريدة، وفي “جمعية الاتحاد والترقّي”، وبعد لقائه ابنة الباشا يفكّر في الزواج بها، وما سيحمله هذا الزواج من حلم الثراء والحياة الجميلة، والمليئة بالاستثناءات كما يفكّر ولكن دون سرقة، ويبدأ امتحان الذات مع زيارته لبيت الباشا، الذي كان قصراً بأربعين غرفة، وثلاثة طوابق، وثراء واخز يدفع شفيق إلى أن يفكّر في أنه ليس من المال الحلال. لكنه سرعان ما يطرد الفكرة من رأسه، ويرفض هدية قيّمة من الباشا. في المقابل، تضع نعمات شرطها لزوج المستقبل الذي تريد أن تصنعه هي، بأن يحافظ على نفوذه في الجمعية وأن يدخل البرلمان. وتتطلّع إلى إعادة الاعتبار لوالدها في العصر الجديد وأن يدخل مجلس الأعيان، وسرعان ما يتحقّق الأمر بهمّة شفيق بعد تصديق السلطان عبد الحميد على القائمة، وموافقته على التغييرات.
تنطق أسارير الباشا بالفرحة، وتلمع عيناه حين يرى اسمه في الجريدة ويعود لاستقبال المهنّئين من جديد، الذين انفضّوا عنه عندما أُعفي من منصبه، لكن طموح الباشا لا يتوقّف؛ إذ يتطلّع بعد حين إلى منصب الصدر الأعظم الذي يحلم به منذ أربعين سنة. ويطلب من صهره بعد استجواب الصدر الأعظم أن يسحب الثقة منه، ولا يقضي على هذه الآمال سوى وفاة الباشا بسكتة قلبية في أثناء اجتماع المجلس.
ترصد الحياة السياسية والاجتماعية آخرَ الدولة العثمانية
لا يتوقّف الطمع السياسي عند الباشا، بل يطاول شفيق أيضاً، إذ يتجرّأ على أن يطلب من الصدر الأعظم منصب ناظر العدلية بسبب احتمال وفاة رفيق بك الذي يشغل هذا المنصب. ويعرّضه ذلك لمحاسبة “جمعية الاتحاد والترقّي”، وهي صاحبة القضية والمبادئ، والتي ترى أنّ ابنة الباشا أفسدت هذا الرجل. ومع ذلك، وحرصاً منهم على وحدة الجمعية أمام تحدّيات المعارضة، يُتجاوَز الأمر، وتنقلب الأحوال التي تقتضي تحالفات جديدة بين الجمعية والباشاوات السابقين، ويعترف الصدر الأعظم الجديد بفضلهم في حصوله على هذا المنصب، بينما تنتقد ابنة الباشا ما يحدث بقولها: “لقد جعلتم من سلطان عظيم دمية بين أيديكم”، أمام ارتهانه لمستحقّات التغيير.
وتستمر سياسة نعمات في توجيه بوصلة زوجها نحو المناصب الأفضل. وعندما يبدأ تراجع الاهتمام من قبل الناس بـ “جمعية الاتحاد والترقّي”، تُلوّح لزوجها بضرورة الابتعاد عنها، فيبدأ بانتقاد سياسة الاتحاديّين، ويتساهل مع أطراف تطرح اللامركزية في الإمبراطورية. وتكون اللحظة الفاصلة بالمقاطعة، حين يُغتال أحد المعارضين بترتيب من الجمعية دون معرفة شفيق بالأمر، ما يدفعه إلى تمزيق صورته التي تجمعه بأصدقائه طلّاب الحرية قبل 10 تمّوز/ يوليو، ويتبيّن أنّ ما فعله هو قراءة للمستقبل؛ إذ تبدأ انتفاضة آذار/ مارس العسكرية على بعض الاتحاديّين ويهرب بعضهم. ومع استقالة الصدر الأعظم يكافئ شفيق بدخوله وزارة الداخلية مع الحكومة الجديدة، لكن التوتّرات تطاول السلطان الذي بدأ يفقد ألقابه، مثل “ظلّ الله في العالم” و”أفندينا المعظَّم”، بل يصل الأمر إلى انتقاده، وتتدهور الأوضاع بأخبار الجيش القادم من سلانيك واحتمال قيام حرب أهلية. هنا يقتنص شفيق مأزق اللحظة ويقترح على السلطان منحه منصب الصدر الأعظم لإنهاء التمرُّد، لكن السلطان يرفض.
تنزلق لعبة السلطة إلى الضفّة المقابلة حين تقترح نعمات على زوجها الانضمام إلى الجيش القادم وإسقاط السلطان، مصمّمة، وهي المتورّطة في لعبة المناصب، على السقوط في الهاوية. وهكذا ينتهي الزوج إلى السجن، وتنتهي هي إلى الهرب من البلاد.
تقدم لنا الرواية صورة سردية للسياسة بكل تلوُّناتها في زمن سلطان يحمل ثقله التاريخي ووجهه الإشكالي، وتفضح اختلال السلطة وإغراءاتها وتوظيفها، وما تتيحه من فساد وتغوّل وجشع.
وهكذا تتوارى صورة السلطان في الرواية خلف الإذعانات التي ينقاد لها حماية لبلاده، ومن ذلك موافقته على عودة العمل بالدستور، وحتى قبوله بالتخلي عن العرش حقناً للدماء، وفي إهاب سلطته العليا يتموضع الجسم السياسي بوزرائه وباشاواته وأعيانه الذين يتشبّثون بالمنصب حتى آخر العمر، وهم يحوكون الدسائس ويحلّون العُقد ويراكمون الثروات لإعمار بيوت لا تعرف الحب؛ فالباشا يعامل زوجته بجفاء واضح، وحين يموت تعترف بأنها تحترمه وتقدّره، فهو الذي رفع مكانتها من جارية إلى خانم بعد إنجابها ابنته نعمات، ولكن ذلك لم يمنعها من خيانته. وكذلك ابنة الباشا التي تزوّجت ممّن صنعته، ولم تتسامح مع طبقته المتواضعة، ثم أودت به إلى السجن، وكذلك أقرب الخدم إلى الباشا، الذي تجرّأ على إقامة علاقة سرية مع زوجته، وتفكيره في الإبلاغ عنه لسجنه.
أمّا خارج البيوت، فتُصوّر الروايةُ الحياة مزدهرةً بإعادة الدستور والتغييرات القادمة، وحرية الصحافة والشعور بنسمات عهد جديد قادم، كما صوّرت لحظة صعود “جمعية الاتحاد والترقّي” التي مثّلت الحماسة للتغيير والتحديث للدولة العثمانية، ولحظة تراجعها في مكان حكمته الاضطرابات والتحوّلات والطريق المسدود. ومنحت الرواية صورةً مغايرةً للسلطان عبد الحميد الذي بدا في كتب كثيره كسلطان قويّ ومستبدّ ومتفرّد بالحكم والسلطة، بينما قُدّم هنا بملامح حيادية جديدة تغلّب مصلحة الدولة وتعمل لإنقاذها.
رواية “أيام السلطان عبد الحميد الأخيرة” كُتبت بأسلوب تقليدي يُحاكي أسلوب الزمن الذي كُتبت فيه (أربعينيات القرن الماضي). أمّا الترجمة، فحافظت على روح النص، واستخدمت الأسماء التاريخية؛ مثل بلغارستان وأرض روم وروملي وسلانيك وغيرها، فأعطت الإيهام بصدقيتها، ومكّنت الرواية من أن تكشف للقارئ لعبة السياسة، وأن تُحفّزه أكثر على قراءة التاريخ.
- كاتبة من سورية
** Nahid Sırrı Örik كاتبٌ ومترجم تركي (1825 – 1960) من مواليد إسطنبول، درس في أوروبا وعاش في عددٍ من مدنها، قبل أن يعود إلى تركيا عام 1928. عمل في الترجمة؛ إذ ترجَم أعمالاً لفولتير وبلزاك إلى اللغة التركية، وأصدر العديد من الروايات والقصص والمسرحيات. يَعتبر النقاّد روايته “أيام السلطان عبد الحميد الأخيرة”، والتي صدرت عام 1947، وثيقةً حيادية عن مرحلة ضبابية من تاريخ الدولة العثمانية.
Comments are closed.