همفري ديفيز.. رحيلٌ بعد جيرة عربية طويلة
مع ما يجري إلحاقه، في العقود الأخيرة، بصورة العرب في الغرب، فإن ترجمة أدب منطقتنا بات مغامرةً يتردّد كثيرون في خوضها، ويدخلها عادة أكاديميون يرتبط تمرين الترجمة عندهم بمشاغلهم البحثية.
لكنّ المترجم همفري ديفيز (1947 ــ 2021) خاض هذه المغامرة من منظور مختلف. فقد كان على مسافة من الحياة الأكاديمية، وكان ارتباطه بالثقافة العربية أقرب إلى الهواية، بادئ الأمر، وإن شئنا بعض الدقّة قلنا “الهواية المنتظمة”، التي تحوّلت إلى احتراف، وهو ما تُبيّنه قائمة ترجماته الطويلة، ويبيّنه اتّساع مساحة اهتمامه بوجوه الثقافة العربية، في مصر على الخصوص.
غادر ديفيز عالمنا عن 74 عاماً في الثاني عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، بعد أن أمضى ما يقارب ربع قرن منها وهو يشتغل على السرد العربي. تجربةٌ استهلّها سنة 1997 مع القصّتين القصيرتين “فار” و”الشوق” للكاتب المسرحيّ والممثّل المصري سيّد رجب، وقد أتى هذا الاختيار في إطار حالة افتتان باللهجة المصريّة وتاريخها. هذه العودة إلى الماضي البعيد للهجات العربية أمرٌ نادر في الترجمات عن العربية، لكنّه تجسّد مع ديفيز في تحقيق المجلّد الأوّل لكتاب “هزّ القحوف بشرح قصيد أبي شادوف” من مصر العثمانيّة ليوسف الشربيني، وترجمة المجلّد الثاني. وقد كان للتّحدّيات التّرجميّة التي اعترضته مع ذلك النّص أثرٌ في نفسه شجّعه على جعل الترجمة حِرفةً.
تنقّل بين ترجمة الرواية والاعتناء باللهجة المصرية
درس همفري ديفيز اللّغة العربيّة في “جامعة كامبريدج” بين عامي 1965 و1968، ليتابع دراستها في مركز دراسة اللّغة العربيّة في الخارج، التابع لـ”الجامعة الأميركيّة” بالقاهرة حتى 1969. وبعد عمله في مجال النّشر ومشاركته في الأعمال التحضيريّة لـ”معجم اللّغة العربيّة المصريّة” لمارتن هايندس والسّعيد بدوي، سافر إلى الولايات المتّحدة ليتابع دراسته والحصول على شهادة الدكتوراه من “جامعة كاليفورنيا” في بيركلي سنة 1981، قبل أن يعود ويعمل لدى منظّمات غير حكومية تنموية في مصر وفلسطين والسودان وتونس بين 1983 و1997.
ترجم ديفيز العديد من الأعمال الأدبية المهمّة بطلب من قسم النّشر في “الجامعة الأميركيّة” بالقاهرة، نذكر منها “كفاح طيبة” و”زقاق المدقّ” لنجيب محفوظ، كما ترجم “عمارة يعقوبيان” و”نيران صديقة” و”نادي السّيارات” لعلاء الأسواني، و”متون الأهرام” لجمال الغيطاني، و”الدّنيا أجمل من الجنّة” لخالد البرّي، و”ديروط الشّريف” لمحمّد مستجاب، و”سحر أسود” لحمدي الجزّار، و”أن تكون عباس العبد” لأحمد العايدي، و”فوضى الحواس” لأحلام مستغانمي.
تُوّجت بعض ترجماته بجوائز معروفة، منها “جائزة سيف غباش ــ بانيبال” لترجمة الأدب العربي للإنكليزية مرّتين (2006 و2010) لترجمتيه لـ”باب الشمس” و”يالو” لإلياس خوري، فيما رُشّحت ترجمته لرواية “واحة الغروب” لبهاء طاهر سنة 2010 وترجمته لرواية “ولدت هنا، ولدت هناك” لمريد البرغوثي سنة 2012 إلى نفس الجائزة. وفي سنة 2018، حصلت ترجمته لرواية “اسمي آدم” لإلياس الخوري على “جائزة القلم البريطاني” العالميّة للترجمة.
في العديد من الحوارات التي أُجريت معه، كان ديفيز يؤكّد أنّ اختياراته الترجمية قائمة أساساً على إعجابه بالأعمال بناء على قيمة النّص وأحياناً على ندرة أسلوبه، مثل كتاب “الساق على الساق فيما هو الفارياق” لأحمد فارس الشّدياق، الذي امتاز نصّه بلغة فريدة ومصطلحات قديمة صعبة المراس جمعت بين السّجع والأمثال الشّعبية والنّكات التي تعتبر عصيّة عن التّرجمة.
أمّا في الأعمال الحديثة، فقد اهتمّ بنقل المعيش اليومي ومنظور الشّعوب العربيّة وموقفها من العالم، مع إيلاء اهتمام خاصّ باللغة العامّية الدّارجة، وخصوصاً اللّهجة المصرية، بحكم أنّه عاش في مصر نحو خمسين سنة، مستفيداً من التفاعل المباشر مع أغلب الكتّاب الأحياء أخْذاً وردّاً معهم بخصوص مقاصدهم من اختيار الكلمات ومعناها في سياق النّص.
خارج الترجمة، من أبرز ما تركه ديفيز في التأليف كتابٌ بعنوان “الدليل الميداني لأسماء شوارع وسط القاهرة” بالاشتراك مع ليسلي لبابيدي، وقد بحثا فيه عن أصول أسماء الشّوارع وسبب تسميتها بناءً على الخرائط القديمة وشهادات المؤرّخين.
في حصيلة ديفيز أكثر من ثلاثين كتاباً عبر بها من ثقافتنا إلى لغة شكسبير، وكانت تنقل جزءاً غير هيّن ممّا يُنتَج في جنوب المتوسّط إلى آفاق أخرى. وحين نتحدّث عن حصيلته، لا يمكن أن نغفل مجموعةَ محاضراته وحواراته، فهي تزخر بشهادات قيّمة عن الثقافة العربية بعينٍ تتميّز بكونها أتت للتّعرّف على النصوص العربية والتّعريف بها من دون استعلاء أو تفضيلات أو أحكام مسبقة كثيراً ما تتسرّب بين ما ينقله المترجمون من العربية.
سليمان زوقاري
Comments are closed.