المكتب الرئيسي عدن

حُلمٌ من قماشٍ ومن ذهب

خوسيه مارتي

استباقاً لذكرى ولادة الشاعر الكوبي خوسيه مارتي (1853 ــ 1895)، التي تحلّ في كانون الثاني/ يناير المقبل، أطلقت “الأكاديمية الملكية الإسبانية” بالتعاون مع “رابطة أكاديميات اللغة الإسبانية” أنطولوجيا شعرية تذكارية من أعماله، حملت عنوان: “مارتي في كونِهِ”.

تتضمّن الأنطولوجيا مجمل شعر مارتي، بالإضافة إلى نصوص نثرية (مقالات، دراسات، وخُطب)، بما فيه تقديمٌ لمختلف الأبعاد الفنية في تجربة الشاعر والمناضل والسياسي الكوبي. كما شمل الكتاب نصوصاً حول مارتي لمؤلّفين أساسيين في الآداب الناطقة باللغة الإسبانية، مثل خوان رامون خيمينيث، وغابرييلا ميسترال، الحائزين على جائزة نوبل، وروبين داريو، أحد أكبر ممثّلي الحداثة في الإسبانية، بالإضافة إلى أكاديميين مثل غييرمو دياث بلاخا من “الأكاديمية الملكية الإسبانية”، أو مارلين دومينغيث من “الأكاديمية الكوبية للغة”. تقول غابرييلا ميسترال (1889 ــ 1957) عنه: “إنّ الأشعار البسيطة هي جزيرة حقيقية لأصالة مارتي الشعرية؛ إنّها اللُّبُّ المارتيّ الذي لم يستطع العدوّ التسلُّل إليه. لذلك فإن هذه الجزيرة عزيزة عليّ بشكل خاصّ. لي فيها أعظم مُتعةٍ مع المعلّم، ولي معه فيها محاوراتي الأكثر تحقُّقاً”.

أمّا الشاعرة والفيلسوفة الإسبانية، ماريا ثامبرانو (1904 ــ 1991)، فتُشير إلى إعجابها بتجربته قائلةً: “لا يمكن لمارتي إلّا أن يكون كونياً، وأن يُحسّ ــ على نحوٍ كونيّ ــ قطعةَ التاريخ التي قُدِّرَ له أن يعيش فيها”. من جهته، يعتبر الشاعر الكوبي سينتيو فيتيير (1921 ــ 2009) أنّ مارتي وكوبا صورتان لشيء: “سوف يكون من الصعب الاستشهاد بحالة أخرى لتماثل البلاد مع إنسان يبلغ هذا الحجم العظيم الذي تجسّده كوبا في شخص وأعمال خوسيه مارتي”.

تأتي أنطولوجيا “مارتي في كونِهِ” لتذكّر بتجربةٍ لم ينفصل الشِعر فيها عن النضال السياسي. وإن كان الشاعر قد بدأ الكتابة مبكّراً، فإنّه سُجن أيضاً في السادسة عشرة من عمره بسبب أفكاره الثورية. سيُنفى بعد ذلك إلى إسبانيا، وعند عودته إلى كوبا بعد سنوات، سيُنفى مرّة أخرى. أسّس مارتي “الحزب الثوري الكوبي” في 1892، قبل ثلاثة أعوام من مقتله في معركة خاضها مع المناضلين الكوبيين ضد الاحتلال الإسباني.

هنا ترجمةٌ لعددٍ من قصائد مارتي.

راغبٌ في أن أهب ذاتي للفضاءات

راغبٌ في أن أهَبَ ذاتي إلى الفضاءات
حيث يعيش المرء في سلام، برداءٍ
من ضوء، مفعماً بمُتعة مُسكِرَة،
يتنزَّهُ فوقَ الغيوم البيضاء،
حيث يحيا دانتي والنجمات.
أعرفُ، أعرف، لأنني رأيتُ،
في ساعات نقيّة، كيف تكسر
زهرةٌ كأسَها، بطريقةٍ ليست مختلفة، لا،
عن تلك التي تحطّمه بها الروحُ.
اسمعوا، سأقول لكم: إنّها تأتي بغتةً
مثل فجرٍ غير مُتوقَّعٍ، ومثلما،
في الضوء الأول للربيع،
تتغطّى بالزهر شجيراتُ الليلك المحبوبة.
يا لحزني! راغبٌ في أن أحكي لكم عن ذلك،
وفي انتظار إلهام الشِّعر، اصطفَّتِ
الصورُ العظيمة أمام عينيَّ،
مثل نسور مبتهجة رأيتُها جالسة.
لكنّ أصوات البشر كانت تطرد
الطيور الذهبية النبيلة من جِوَارِي.
ها قد مضت، ها قد مضت. انظروا كيف يسيل
الدم من جرحي!
إذا سألتموني عن رمزٍ للعالم
في هذه الأزمنة، فها هوَ: جناحٌ محطَّمٌ.
يُصقَلُ الذهب طويلاً؛ أمّا الروحُ، فبالكاد.
انظروا كيف أكابد: روحي تحيا
مثل ظبيةٍ حوصِرَتْ في كهفٍ.
آهٍ، لا، ليس ذلك بالأمر الجيّد:
سأنتقم لنفسي وأنا أبكي!

■ ■ ■

أعرف رسامًا جريئاً

أعرف رسّاماً جريئاً
سعيداً يخرج لكي يرسم
على قماش الريح
وزبَد النسيان.

أعرف رسّاماً عملاقاً،
ذا ألوان إلهية،
يشرع في رسم الزهور
على سفينةٍ تجارية.

أعرف رسّاماً فقيراً
ينظر إلى الماءِ لمّا يرسم،

  • ماءِ البحر المبحوح-
    بعشقٍ مُوَلَّهٍ.

■ ■ ■

ما يهمّ في أن يكون خنجرك

ما يهمّ في أن يكون خنجرك
منغرزاً في خاصرتي؟
لديّ أشعاري، وهي
أقوى من خنجرك!

ما يهمّ لو أن هذا الألم
يُجفِّفُ البحر ويُغيِّمُ السماء؟
الشعرُ عَزاءٌ عذبٌ
يُولَدُ مُجنّحاً من الألم.

■ ■ ■

شجرة روحي

مثل طائرٍ يعبر الأجواء الصافية
أُحسُّ أفكارَك تأتي إليَّ
وهنا في قلبي تصنع عُشّها.
تتفتّح الروحُ المزهرة: ترتعش أغصانها
مثل الشفاه الطريَّة لفتىً
في عناقه الأول مع البهاء.
تهمس الأوراق: حتى لكأنَّهَا تبدو
ألسنةً حاسدة للخادمة
المنشغلة بإعداد السرير
في البيت الثريّ.

شاسعٌ قلبي وهو لكِ كلّه:
يتّسع لكل شيء حزين، ولكلّ شيء.
كم يبكي ويكابدُ الآلام ويموت في العالم!
أنظّفه من الأوراق الجافّة والغبار
والأغصان المنكسرة: ألَمِّعُ بعناية
الأوراق وسيقان الأزهار، وأفصلُ
عنها الديدان والبتلات المقضومة:
أُهَوِّي الأرضية المعشبة في محيطها.
كي أستقبلك يا عصفوراً بلا نقصٍ
أُهيِّئُ قلبيَ الشاردَ!

■ ■ ■

رقص

أنظرُ بمتعةٍ حزينةٍ
كالحفل النبيل الشاحب في مدينة شريش.
تحمل اليدان البيضاوان المرتعشتان
القدحَ الممتلئَ
نحو الشفة الجافة الحمراء ـ
وأنا أحرّكُ يدي بأسىً
نحو القلب الفارغ، ونحو الجبهة.

أرى ما يشبه حلماً
من شاش أبيض ومن ذهب،
تفتح فيه الجذوة طريقاً
في كلّ هذا الثوب المجنّح
الذي يجب أن يصير فيما بعدُ
رماداً مبلّلاً بالدموع.
أعبر الحاشية المرحة، المصنوعة من ذهبٍ وشاش،
وفي بكاء مُرٍّ يحترق وجهي.

أيّتها الروح! لمّا تعودين
داخل الجسد المُنْحَلّ
من البذلة الرخيصة،
من السجن السعيد
ومن القماش المخرّم الثلجيّ، – تذكّري
الحفلَ شديد الحرارة، وانظري:
يجب أن تلجمي الجسد المجنون،
أو أنه سيمتصّك بعطشه شيئاً فشيئاً!

■ ■ ■

غابٌ من ورود

آهٍ، دمُ الروحِ ــ أرأيتِه؟
له يدٌ وصوتٌ. ومَن يُريقُه
تحكُمْه إلى أبدِ الآبدين بالبقاء بين الظلالِ.
ثمّة جرائمُ خفيَّةٌ وثمّةّ جثثُ
أرواحٍ، وثمّة قتلةٌ أشرار.
تعالي إلى الغاب: من السنديانة الأشدّ شموخاً
فلنصنع حوضاً، وفي الحوض
لنضعْ أولئك الذين يخدعون النساء!

هو ذا الصراع البشري: المعركة
الرهيبة بين الحوافر والزنابق!
أليس الرجال المتعجرفون وحوشاً؟
وحوشٌ وحوشٌ! انظري، هنا أحملُ لكِ
حيوانيَ الميت وغضبي المروَّض.
تعالي، اصمتي، واهمسي إلى ضجيج
أوراق نيسان وأعشاشه.
اتركي، يا معشوقتي، جدرانَ هذا البيت
الغارق خرساءَ كما هي، وتعالي معي،
ليس إلى البحر الذي يخفق ويزأر، ولكنْ إلى غابٍ
من ورودٍ يوجد في أعماق الغابة.
ثمة هناك حياة هنيئة، لأنها حُرَّة،
وفضائلُك، لأنّها حرة، ستكون أكيدةً،
ولأنّها حُرّة، فهي جديرةٌ بامتناني.
حتى الحبُّ، إن لم يكن حرّاً، لا يستطيع أن يهَب السعادة.

آهٍ، الناس السيّئون، أولئك الذين يستمتعون
في سكينةٍ بحُبٍّ مسروق! لو كان الودُّ
غريباً، فمتعة إجلاله
ألفَ مرّةٍ أكبر من متعة التلذّذ به.
من الفعل الطيّب لكَمْ يتبقّى في القلب من الكبرياء،
ويفيض بالدموع العذبة،
وبكلمات غريبة تبدو
مثل رفرفات أجنحة، وليست أصواتاً!
يا له من ذنب
أن يتمّ التظاهر بالحُبّ. في ذلك عذابٌ
مثل العذاب الكامن في الحديث عن الحبِّ دونما حب!

تعالي، سوف أرحل إلى هنالك حزيناً، فأنا كذلك أرى ذاتي!
تعالي، فسوف تكون العزلة درعاً لكِ!

■ ■ ■

سوف أزور باشتياق

سوف أزور باشتياقٍ
الزوايا التي كنّا وحيدَيْن فيها
أنا وعشيقتي
نمرح مع الأمواج.

وحيدين كنّا،
وحيدين، رفقةَ
عصفورين رأيناهما
يدخلان الكهف الظليل.

عشيقتي تنظر
إلى هذين الزوجين الخفيفين
وتفكّ الزنابق الحمراء
التي منحتها إيّاها البستانية.

سيّدةٌ مرِحة
أمسكت بيديها
زهرةَ العسَل العطرة
وياسمينةً مثل نجمة.

وقد رغبتُ، بارعاً وأنيقاً،
أن أفتح لها شمسيّتها،
فقالت لي: “أيُّ حماس!
أرغب اليوم برؤية الشمس”.

“لم أرَ من قبل أشجار
سنديانٍ نبيلٍ أعلى من هذه:
هنا يجب أن يكون المسيح،
لأنّ ثمة كاتدرائيات”.

“أعرف إلى أين ستأتي
ابنتي من أجل تناول القربان المقدّس.
يجب أن أُلبِسَها ثياباً بيضاء
وقبّعةً كبيرة ذات جناح”.

ثمّ نخرج من الحَرِّ والثِّقَل،
وندخلُ الطريق
ونتبادل قبلةً
حالما يكون قد انطلق التغريد.

سوف أعود، مثل شخصٍ لا وجود له،
إلى البحيرة الخرساء والمتجمّدة:
سأدقُّ قاعدة المركب الحزينة
وسأرمي المجداف الصامت.

■ ■ ■

إذا رأيتِ جبلًا من زبد

إذا رأيتِ جبلاً من زبد،
فذلك شِعري الذي ترينه:
شعري جبلٌ، وهو أيضاً
مروحةٌ من ريش.

شِعري مثل خنجرٍ
من قبضته تتبرعم زهرةٌ
شعري نبعٌ
يهَبُ مياهَ المرجان.

شِعري أخضرُ فاتحٌ
وقرمزيٌّ مشتعل
شِعري أيلٌ جريحٌ
يبحث في الجبل عن مأوى.

شِعري يروق الشجعان
شعري موجَزٌ وصادق،
هو من قوّة الفولاذ
الذي به ينصهر السيف.

  • ترجمة وتقديم: خالد الريسوني

Comments are closed.