جان بيار سيميون.. مديحٌ مقتضَب للشِّعر
يُعرَف جان بيار سيميون بوصفه واحداً من بين الأسماء التي تنهض بالمشهد الشعري المعاصر في فرنسا. لا يفعل ذلك عبر كتابة ونشر القصائد والدواوين فحسب، بل أيضاً، وقبل أيّ شيء، من خلال موقع إضافي، “نضالي”، يتّخذه لنفسه: الدفاع المحموم عن الشِّعر أمام التصوّرات الشائعة التي تختزله، ليس فقط بين عموم الناس، بل حتىّ في الأوساط الأدبية. دفاعٌ لا تُبالغ صفة “المحموم” في تصويره، إذا ما عرفنا ما فعله ويفعله سيميون، المولود في باريس عام 1950، من أجل الشعر منذ أكثر من عقدين.
يمكننا الإشارة، مثلاً، إلى تنقّله منذ سنوات طويلة، دون كلَل، بين مدن وضواح وقُرى فرنسا، للحديث عن الشعر أمام التلاميذ والمعلّمين، أمام المكتبيّين والمشتغلين في الحقل الثقافي، ضمن مسعىً لخلخلة الكليشيهات التي قد تكون راسخة في أذهانهم حول ماهيّة القصيدة ودورها في واقعنا. يمكن أيضاً الإشارة إلى أعماله التي تَوجَّهَ بها إلى الأطفال، بلغتهم ومنطقهم، تارةً لاقتراح فيتامينٍ جديد يمكنه تعزيز مناعتهم ضدّ أمراض العالَم، هو “فيتامين ش” (كحرفٍ أوّل من كلمة “شعر”) ــ Vitamine P بالفرنسية (2012) ــ، وتارةً لتقريب معنى القصيدة إلى أذهانهم، من خلال حكايةِ “هذه القصيدة التي تشفي الأسماك” (2005). كما يمكن الإشارة إلى أعمال أكثر تحليليةً وأقلّ تبسيطاً، مثل “الشعر سيُنقذ العالَم” (2015)، الذي عرف نجاحاً نسبياً في المكتبات عند صدوره، وجلبَ شيئاً من الضوء الإعلامي إلى مشروع سيميون.
لا يتردّد صاحب “استخدامات القصيدة” (2008) ــ الذي أدار مهرجان “ربيع الشعراء” لسنواتٍ طويلة، قبل أن ينتقل، في 2017، لإدارة إصدارات الشعر لدى منشورات “غاليمار” ــ في وصف مشروعه هذا بالسياسيّ. ولعلّ قارئَ واحدٍ من كتبه، أو المستمع إلى إحدى محاضراته ومداخلاته العمومية، لن يتأخّر كثيراً ليقف على هذا البُعد السياسي في لغته: فهي لا تخشى المواجهة أو تسمية “أعداء” الشعر، ولا تخفي مقصدها في تغيير قناعة القرّاء أو المستمعين. لكنّها لغةٌ بعيدة عن تلك البلاغية التواصلية، الشائعة في عالَم السياسة، التي تأتي لتغطّي فراغاً فكرياً بالعبارات المنمّقة. فما يأتي به سيميون يُحيلنا إلى خطابٍ متماسِك استطاع تشييده خلال عقود من التفكير ليس في الشعر فحسب، بل في تلقّيه وحضوره في المخيال الجمعي، في موقعه من الوجود وفي إمكاناته الاجتماعية.
يفنّد المؤلّف عدداً من أبرز الكليشيهات الشائعة حول الشعر
كتاب “مديح مقتضب للشعر”، الصادر أخيراً عن منشورات “غاليمار” في باريس، يقدّم مناسبةً للوقوف على هذا الخطاب في واحدةٍ من أكثر صوره اكتمالاً. إذ يتوقّف العمل ــ الذي يأتي ضمن سلسلةٍ تُباع كتبها بسعر زهيد، تخصّصها دار النشر الفرنسية لمؤلّفين يقدّمون دفاعاً عن ثيمات وقضايا معيّنة، ضمْن عددٍ من الصفحات يدور عادةً حول المائة ــ عند أكثر من عشرين مسألة تتيح للمؤلّف تفصيل “نظريّته” حول الشعر.
نظريةٌ تبدأ، منطقياً، بتعريف موضوعها؛ وهو تعريفٌ يتّخذ شكلاً سلبياً في البداية، حيث يفنّد سيميون الرؤى الشائعة حول الشعر واحدةً تلو الأُخرى (كأن يكون نظماً موزوناً ومقفّى؛ كلاماً من شأنه تقديم عَزاءٍ للإنسان وفتْح أبواب الحُلم هرباً من واقعٍ صعب… إلى آخر ذلك من مقولات)، قبل أن يبدأ باقتراح رؤيته الخاصّة. هكذا، يقدّم لنا الشعر بوصفه “الاستكشاف الدائم لكلّ الأشكال التي يمكن للكلام البشريّ أن يتّخذها”، ما يجعل منه “برهاناً على استحالة اختزال الحرّية التي تُميّز هذا الكلام”. إنّه فضاءٌ لـ”حُرّيةٍ لا تُحَدّ”، باعتباره سعياً دائماً إلى الذهاب أبعد من الأساليب اللغوية والتواصلية المتعارَف عليها لتَمَثُّل الواقع وتمثيله. والشعر، بهذا المعنى، يتجاوز مساحة القصيدة: هو موقفٌ وجوديّ قبل كلّ شيء. أما القصائد، فكثيرٌ منها قد يحمل هذا الاسم من أن تكون له صِلةٌ حقيقية بالشّعر.
بلغته السِّجالية، يشبّه سيميون ما يفعله الشعراء بالانقلاب السياسيّ أو العسكريّ: فهم يقوّضون نظاماً قائماً ويقترحون بديلاً له. هكذا تتحوّل القصيدة إلى فعْل تمرُّدٍ على السائد، وهكذا تخرج اللغة من سجن المعاني والرموز الذي يحبسها فيه الاستخدامُ الأداتيّ اليوميّ، لتصبح مناسَبةً دائمةً للابتكار والبحث عن جديد. الشِّعر، في التعريف الأكثر تعبيراً عن طبيعته، هو، بحسب الكاتب، هذا البحث المستمرّ عن شيءٍ آخر ومكانٍ آخر؛ إنه في طبيعته تغيُّرٌ وتغيير.
الجوّ “الثوري” الذي يبنيه سيميون في صفحات كتابه الأولى يسهّل مهمّته، تالياً، في تفنيد واحدةٍ من أكثر الكليشيهات انتشاراً حول الشعر: أي تلك القائلة بأنه مساحة للُّغة الجميلة، المتناغمة، ووسيلة لتناوُل المواضيع “النبيلة” أو لتجميل الواقع والهروب منه. إنْ كان يمكن الحديث عن جَمالٍ في ما يخصّ الشعر، فهذا الجَمال لا علاقة له بالموضوعات (يمكن لأيّ موضوعٍ أن يكون شعرياً) بل بالفعْل: “ما علينا أخْذه بعين الاعتبار هو جَمال الفعْل (…)، هذا الفعل الحرّ المتمثّل في تخليص اللغة من شوائبها وفي إعادة الطاقة الحيوية إليها؛ في إعادة النفَس الذي فقدتْه”.
والنتيجة المتحصّلة من فعلٍ كهذا ليست أقلّ من إيقاظٍ للوعي الذي ينوّمه الاستخدام الأداتيّ، المختزَل، للّغة. النتيجة هي صحوةٌ تكشف عن عالَمٍ كان مغطّىً بالمظاهر الخارجية وبالعلاقات الوظيفية ــ الربحيّة ــ بين الكلمات والأشياء. “لا يقوم الشِّعر بالمصادقة على واقع قائم، بل بتوسيعه إلى ما لا نهاية له”. إنه بهذا المعنى معركةٌ دائمة ضدّ دوَران اللغة حول نفسها وضدّ القراءة الأحادية للواقع. وهو “طريقةٌ اُخرى للعيش” تقود بالضرورة إلى انفتاحٍ على الذات وعلى الآخَر ــ شخصاً كان أم شيئاً أم تضريساً. فالبقاء في “حالة شعر”، أي في ذلك الموقِف اليقِظ والمنتبِه إلى العالَم، يسهّل تقبُّل الجديد والمختلف، ويخفّف من حِدّة الأحكام المسبقة والهويّات المغلقة التي تعزّزها اللغة الرسمية.
يوقظ الشعر وعياً ينوّمه الاستخدام الأداتي للغة
هنا، يمكن لجان بيار سيميون استعادة مقولة هولدرلين حول “الإقامة شعرياً في العالَم”، وهي إقامةٌ تبدو له ضروريةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، في ظلّ الفصل الذي يقوم به المجتمع الاستهلاكي بين الإنسان وبين الحياة في أبسط تجلّياتها. أمام شروط العيش الرأسمالي التي تنحو إلى تسليع العالَم وتقديس الكسْب والتكديس ــ المعنويّ والرمزي ــ، تُمثّل القصيدة سبيلاً إلى حضورٍ آخَر في العالَم، حضور تستعيد فيه الحياة، بفقرها وبساطتها، جَمالها الذي فقدته: “أن تعيش شعرياً، ذلك يعني أن تقرّر أنّ غاية الحياة هي الحياةُ نفسُها، وأنّ لا شيءَ آخر يمكن أن يتجاوز، في قيمته، قيمةَ هذه الحالة الشعرية (…) التي تسمح لنا بالوصول، في ساعاتٍ شديدة النُّدرة، إلى ذلك المكان الحقيقي، ذلك الحضور المكثّف والمكتفي والهشّ أمام العالَم وهو يتنفّس، أمام الجَمال الشاسع”. ورغم فقْر الممكنات التي يقوم عليها هذا الفعل، إلّا أنّ غناهُ بائنٌ في مكان آخر: السعادة التي يمنحها، والتي يعرفها كلُّ مَن قرأ قصيدة وفتحت له، يوماً ما، أفقاً على العالَم لم يكن قد عرفه من قبل. سعادةٌ تفوق الفرَح العابر: إنها سعادة المرء بوجوده في حضرةِ شيءٍ أعظم منه، كما سبق للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أن كتبَ ذات يوم.
الشعر إذاً، في جوهره، فعلٌ سياسيّ وحيويّ، حتى من دون أن تكون السياسة أو الحياة موضوعه. هو، تعريفاً، مضادٌّ لهيمنة الرؤية الأحادية، واللغة الأحادية، ومعاكِسٌ لرسمَلَةِ الإنسان وتسليع عيشِه. وهو، إلى جانب ذلك، فِكرٌ بديلٌ عن العقلانوية العِلمية التي تريد ترجمة العالَم إلى لغةٍ صُوْرية واحدة.
سبقَ للشاعر الفرنسي إيف بونفوا أن قال، قبل سنواتٍ، إنّ الشعر مؤسِّسُ وجود. جان بيار سيميون يدفع هذه الأطروحة إلى حدودها القصوى ويبني عليها كتابه بأكمله: الشِّعر تأسيسٌ لوجودٍ آخر، لغوياً واجتماعياً. ولو لم يكن الشعر تأسيسياً لما كان حاضراً ــ كما يشير المؤلّف ــ في كلّ حضارات العالَم التي نعرفها، وفي كلّ مجالات الحياة: من الحقل التعليمي إلى عالَم النشر والمكتبات والفعاليات الثقافية، مروراً بالسرديات المكوّنة للثقافات وللهويات الوطنية والسياسية.
Comments are closed.