“جنون ذاكرة” لعثمان بن الطيّب: ما وراء جبال شفشاون
كان من أهمّ الأسباب التي دعتني إلى دخول لجنة تحكيم “جائزة الرافدين للكتاب الأوّل ــ 2021″، رغبتي في الاطّلاع على ما يكتبه شباب اليوم قبل أن يخضع لأيّة غربلة. ننسى كثيراً أنّ ما يُنشر وما يحظى بالجوائز والاحتفاء لا يمثّل إلّا قطرة من بحر النتاج الأدبي والثقافي المنشور وغير المنشور. وهي غربلة تحجب الكثير ممّا يستحق القراءة لأسباب عديدة يطول شرحها. عثمان بن الطيّب، الروائي المغربي الشاب، كان أحد الأسماء اللامعة العديدة التي منحت الموسم حصاده الثمين. وقد تنافست روايته “جنون ذاكرة” ضمن القائمة القصيرة على الفوز بالجائزة الأولى بقوّة. هذه الرواية تتوفّر الآن للقرّاء بعدما صدرت حديثاً عن دار “ارتقاء” في مصر.
يحقّق بن الطيّب تفوّقه بأدوات بالغة البساطة والصدق، مستغنياً عمّا شاع في الروايات العربية الجديدة، “المحتفى بها”، من بحث عن الغرابة لذاتها، والشطح الصادم لذائقة القارئ، والحذلقة الشكلية الخالية من خطّة أو جهد إبداعي. يسكن بن الطيّب العالم اليوميّ المألوف ويكتفي بما فيه من غرائب واقعية وما لديه من مهارات سردية لرفد روايته بعافيتها وحيويتها. تتابع الرواية حكاية مدرّس شاب يبدأ حياته المِهنية في مدشر (قرية) أمقران، في منطقة تقع ــ كما تصفها المقدّمة ــ “ما وراء جبال شفشاون في بداية العقد الأول من القرن العشرين”.
المكان هو الأصل في تماسك كيان السرد وخطّة الرواية
الطريف أن شفشاون هذه ذاتها قد استحوذت في بداية شهر شباط/ فبراير الجاري على اهتمام العالم بأسره، بسبب الطفل ريان (رحمه الله)، الذي سقط في بئر عميقة وفشلت محاولات إنقاذه. هل سنتذكّر شفشاون بعد هذه الحادثة المأساوية؟ هذا ما حاولت رواية بن الطيّب تحقيقه قبل وقوع الحادث: أن تذكّرنا بأن هذه البقاع النائية المنسيّة المهمّشة تحفل بالحياة، وأن ما يحدث فيها يمتدّ بأثره إلى حيث المركز في المغرب، وإلى أوروبا نفسها.
يوحي عنوان الرواية، “جنون ذاكرة”، أن الزمن بوصفه قوام الذاكرة هو محورها الرئيس، لكنّي أرى أنّ المكان هو الأصل في تماسك كيان السرد وخطّة الرواية. يحرّك السرد وعيٌ حاد بالمسافات والجغرافيا. والراوي الشاب الصادق مع نفسه، المندفع إلى أداء عمله بنشوة البدايات، يحرص على وصف مسار رحلته إلى المنطقة الجبلية التي عُيّن فيها بدقّة وتفصيل. يقال له إنك عُيّنت في “مدارس بني أخيار”، وهو ما يعني أنّ على محمّد أن يبدأ بزيارة تفقّدية يعود بعدها ليستعد للانتقال مع كلّ ما يلزمه للاستقرار هناك.
يستغرق وصف هذه الرحلة الشاقّة، بالباص وعلى الأقدام، أكثر من ثلاثين صفحة من الرواية، تحفل بالرصد الدقيق للمكان والسخرية والدهشة. والأهمّ أنّ هذا العدد من الصفحات يؤسّس في مخيّلة القارئ المكانية مقدارَ المسافة النائية التي تفصل مكان العمل الجديد عن عالم المدن الكبيرة. يقول الراوي: “واصلنا المسير متتبّعين الخطّ الذي رسمته أقدام مَن سبقونا من إنس ودواب. كان ذلك ما يسمّونه الممشى أو طريق المشاة. المربِك في الأمر أنّه يتشعّب أحياناً فلا تعرف أيّ خطّ تتبع. الخلاء يلفّنا، المشهد من حولنا يذكّرني بالعصور القديمة في الأفلام التاريخية. لن أستغرب لو مرّت من أمامنا قوافل أبي سفيان الآن، لن يدهشني أن أجد جيوش مسيلمة الكذّاب مرابطة هناك خلف الجبل. لا شيء يدلّ على أنّنا في بداية الألفية الثالثة. لا شيء البتّة” (ص 24).
عندما يتوغّل الراوي مع زملائه في المكان، يشتدّ شعوره بالغرابة والعزلة: “كنت أنظر إلى الشمس والسماء لأتأكّد من أنّنا لا زلنا نتقاسم الأرض نفسها مع باقي البشر. الموقف عسير بالفعل. بدأ الخوف يتسلّل إلى قلوبنا شيئاً فشيئاً” (ص 29). ما يخفّف هذا الشعور أشباحٌ منفردة من أهالي المنطقة تعرض لهم بين حين وآخر؛ أحدهم “عرض علينا إقراضنا أحد البغال لنحمل عليه متاعنا” (ص 30).
تبقى الرواية حتى صفحاتها الأخيرة حريصةً على تذكير القارئ بحضور هذه المسافات الشاسعة المقطّعة بطرق وعرة ووسائط نقل بدائية. ولا يتخلّى الراوي عن حرصه على وصف سفرات أخرى لا تقلّ طرافةً، فهي تتجدّد بتطوّر السرد. نعلم في نهاية الرواية أن اللاند روفر القديمة التي استقلّها الراوي في إحدى سفراته قد “أصبحت خردة بعد حادثة أودت بسائقها المسكين أثناء خروجه لجلب قنينات الغاز بعد أن توسّله الناس ليفعل. حزنّا عليه كثيراً عندما بلَغَنا الخبر، لطالما ردّد رحمة الله عليه عبارته المعروفة: ’ستقتلني هذه المسخوطة يوماً‘” (ص 166). يذكّرنا وصف الرحلة الطويلة الشاقّة إلى بؤرة الحدث ومسرحه برواية جوزيف كونراد “قلب الظلام”، حيث تستغرق رحلة تشارلس مارلو على نهر الكونغو أكثر من ثلثي الرواية ومدّةً تزيد على ثلاثة أشهر لتؤسّس جغرافيا التهميش والعزلة التي تستكشفها، قبل أن يلتقي تاجر العاج المشبوه كورتز.
سرد بأدوات بالغة البساطة، بعيد عن الغرابة والتحذلق
تستمرّ الغرابة عندما يستقرّ محمد في موضع عمله الجديد، وتقدّم لنا الرواية، بلقطات وحوارات ونوادر متدفّقة رشيقة، تفاصيلَ حياة المدرّسين في سكنهم البدائي، ثم حياة القرويين في مكان يتّضح أنّ مصدر الرزق الأهمّ فيه هو ما يُسمّى “السلعة”، أي زراعة القنّب الهندي وتجارة الحشيش. يقول محمد لزميله حسن عن جمال الطبيعة حولهما في اليوم الأول: ” ـ منظر خلّاب بحقّ. نظر إليّ حسن والحنق بادٍ على وجهه: ـ تراه كذلك؟ أقسم أني أراه بشعاً. ـ المنظر رائع يا حسن. ـ بل بشع… بشع… بشع… لم يدر بخلدي حينها أنّني سأوافقه على وصفه هذا بعد مرور أقلّ من شهر” (ص 43). تتّصل مشكلة زراعة الكيف بكلّ مفاصل الحياة في المنطقة، فهي العصب الذي يغذّي زعماءها وفلّاحيها وحتّى الفقهاء بأسباب البقاء. يسأل محمد صاحبه حسن عن السبب في أنّ كلّ المداشر هنا تمتلك مساجد بُنيت على الطراز الحديث إلّا مدشر أمقران، فيردّ عليه: “كانوا سيبنون واحداً هنا أيضاً. لكنّ السي قاسم رفض الصلاة فيه. ـ الفقيه؟ ولماذا رفض؟ ـ رفض الصلاة في مسجد يُبنى من مال زراعة الكيف. يصرّ على الصلاة في المسجد القديم الذي بُني بالحجارة والطين” (ص 51).
لنتأمّلْ أنّ واحداً من المساجد، حسْبُ، قد رَفض أموال الكيف لبنائه وأصرّ على الحجارة والطين، المساجد الأُخرى كلّها دخلت تحت رعاية تجارة السلعة. يقول الفقيه الممتنع الوحيد سي قاسم: “الفقهاء أناسٌ فُقراء ومعوزون جاؤوا من قرى بعيدة طلباً للقمة العيش. يسكتون عن الأمر حفاظاً عليها. فلو حرّموا الكيف من فوق المنابر لطُردوا” (ص 53). وهو ما يدعو حسن إلى تحذير صاحبه محمد من التحدّث في الموضوع مع سكّان المدشر. أمّا سي قاسم فقد تمكّن من رفض التمويل المشبوه لحصوله على تقاعد مريح من عمله لعشرين سنة في إسبانيا (ص 54).
تتدفّق الرواية في تقديم شخصيّاتها المتنوّعة من مدرّسين (جُنّ ثلاثة منهم) وتجّار كيفْ وفقهاء وتلاميذ يعانون الأمرّين. هنالك أيضاً احتفاء بالأماكن الحميمة الضيّقة التي يتجمّع فيها الرجال للسمَر والترويح غير آبهين بما يحيط بها من تهديد وما يسِمُها من بؤس. يتحرّك السرد بقوّة دفع عفوية تحتفي بالمكان والشخصيات وتطوّر الحدث دون ترهّل أو حشو في مواجهات وتحدّيات وتعقيدات تصل حد المجازفة بالحياة. ويتّصل أحد الموضوعات المهمّة في الرواية بظاهرة الهجرة المتواصلة من أفريقيا إلى أوروبا. يتّصل الأستاذ محمد بعصابات التهريب للتوسّط لشباب يجهدون بكلّ ما لديهم من إمكانات للعبور إلى إسبانيا. والرواية تفتح مغاليق عالم التهريب السرّي وتذكّرنا جميعاً بأنّ ما يتصدّر نشرات الأخبار في العواصم الكبرى في الغرب تصل جذوره إلى خفايا قصية معزولة لا يعرفها أحد أو يأبه لأحوالها.
أمّا كورتز الذي يصل إلى عرينه مارلو في رواية كونراد، فإنه هنا شخصية الجامبيرو بقسوته الصادمة وممارساته المشبوهة في تجارة الكيف: “كان يحرث أرضه بنفسه ومعه ابنه الصغير ذو الخمس سنوات. كان طفله يعاني من مرض صدريّ، وقد مات أمامَه بالحقل عند الظهيرة. أتعرف ماذا فعل…؟ مدّده تحت شجرة قريبة وتابع حرثه إلى أن حلّ الغروب موعد رجوعه. حينها فقط حمله إلى البيت ودفنه” (ص 98).
يعمد بن الطيّب إلى تصدير فصول الرواية بحكَم ونصائح إيجابية تدعو إلى الأمل والثقة بالنفس. وهي تبدو تعليمية مبسّطة، لكنّ ما يعقبها من سرد يخلو تماماً من المصادرات المجّانية، فهو يواجه الحقائق كما هي ويتابع تقلّبات الأستاذ محمد بين اليأس والرجاء. تخلق هذه المداخل نوعاً من التضاد مع ما يعقبها من سرد، وهي بذلك تؤدّي دوراً مهمّاً في خلق حيوية الرواية وإصرارها على عودة متكرّرة إلى منطلقات الراوي الشاب النقية الصادقة بينما هي تتعرّض للاختبار وتتآكل. هنالك مفاصل أخرى تصدر عن هذه الروح النقية للراوي، تتمثّل في محاولاته الصغيرة لتدارك الخراب: يتورّط في مساعدة شباب طامحين إلى الهجرة ويشارك في مسيرات احتجاجية لتحسين ظروف التعليم. وهي جهود توقعه في مزيد من الإشكالات، فهي أشبه بمسيرة عرجاء لا تأبه بعللها ولا تتوقف. يلاحظ محمد أنّ صاحبه حسن يتقدم نحوه متمايلاً حتّى ظنه أعرج، فيوضح حسن: “لست أعرج يا صديقي. إنّما ثمن الحذاء في سوق ’الكلب‘ (سوق بمدينة سلا) أغراني بشرائه فلم أنتبه لطبيعته. مع ذلك أنتعله. مَن يبالي؟ خلاء في خلاء” (ص 42).
- روائي ومترجم عراقي مقيم في كندا
- فلاح رحيم
Comments are closed.