عبد اللطيف الأرناؤوط.. أضواء على ثقافة متوارية
فقدت الساحة الثقافية العربية كاتباً رائداً في إسهاماته الأدبية المتنوّعة والمعرِّف الأول بالأدب الألباني في اللغة العربية. وُلد الكاتب عبد اللطيف الأرناؤوط في دمشق عام 1931 في أسرة ألبانية هاجرت من كوسوفا بعد حرب البلقان (1912 – 1913)، وحظيت بالترحيب هناك شأنها كبقية المهاجرين الذين سمّي حي راق باسمهم في دمشق.
اهتم والده بتعليم أبنائه، وبرز منهم ثلاثة أسماء هامة في الساحة الثقافية؛ هم: عبد القادر الأرناؤوط الفنان التشكيلي والأكاديمي، والشاعرة والروائية عائشة الأرناؤوط. وكان عبد اللطيف أول من أكمل الدراسة الثانوية من أبناء المهاجرين، وتابع دراسته في “دار المعلمين” ليعمل بعدها معلماً ومديراً. ثم التحق بوزارة التربية ليكون أمين تحرير لمجلة “المعلم العربي” حتى سبعينيات القرن العشرين. انتقل بعد ذلك إلى “اتحاد الكتاب العرب”، حيث شغل أمين تحرير “الموقف الأدبي” الفصلية، وكذلك مجلة “التراث الأدبي” (1997)، ثم تفرّغ للترجمة والكتابة.
كان لنشأته في أسرة ألبانية دور في إتقان اللغة الألبانية المحكية، واستفاد من موجة المهاجرين السياسيين الذين وفدوا إلى سورية، وتأسيس أول جمعية للألبان في دمشق عام 1949، حيث أتاحت تعزيز الروابط وتوثيق الصلة باللغة الأم التي بدأ تعليمها كلغة حديثة للألبان، وترافق ذلك مع اهتمامه باللغة العربية التي أحبّها وكتب بها العديد من كتبه. بدأ حياته الأدبية شاعراً وأصدر ديوانه “عزف على قيثارة الوطن”. أما أول كتاب له فكان بعنوان “الأخطاء الشائعة في اللغة العربية” مع زميله خالد قوطرش (دمشق – 1966)، ثم تتالت مؤلفاته لتصل إلى مئة كتاب بين الترجمة والنقد والدراسة.
بدأ عبد اللطيف الأرناؤوط إنتاجه بالتعريف بالشعر الشعبي الألباني وشعر عهد النهضة القومية الألبانية، الذي كان الأساس للشعر الألباني المعاصر والذي عبّر عن الألبان في موطنيهما ألبانيا وكوسوفا. ونشر ترجمة لـ 42 قصيدة متنوعة نشرت في الصحف السورية كـ “دمشق المساء” وجريدة “الأخبار” وجريدة “الثقافة الأسبوعية” وغيرها.
كان أول من ترجم أعمال إسماعيل كاداريه إلى العربية
لعبت الأوضاع السياسية في الوطن الأم دوراً في إنتاجية الكاتب وتفاعله مع المشهد الثقافي. وبدا ذلك مع انطلاقة “الثورة الثقافية” في ألبانيا (1967-1970) التي أحكمت الحصار عليها وعزَلتها عن العالم، بهدف حمايتها من الفكر الغربي ولوثة الليبرالية، مما أدى إلى تدهور شروط الحياة والإبداع وتراجع الأدب. وتوقف الكاتب الأرناؤوط لسنوات عن الكتابة والنشر.
في الضفة الأخرى من الوطن تمكّن الكاتب من زيارة موطن أسرته في كوسوفا، الذي أصبح إقليماً يتمتع بحكم ذاتي واسع تحت مظلة جمهورية يوغسلافيا السابقة. ومع الاختلاف الكبير بين النظامين، استعاد الأرناؤوط حماسه السابق نحو ثقافته الألبانية ومعاودة الإنتاج الأدبي ولا سيما بعد تعرّفه على أهم الشعراء والكتّاب الألبان.
وجاء الانعطاف الكبير في مسيرة عبد اللطيف الأرناؤوط الأدبية عندما عرّف الكاتب العربي بأهم الكتاب الروائيين في ألبانيا، ومن بينهم المرشح المتكرر لجائزة نوبل للآداب إسماعيل كاداريه المولود في 1936 الذي أصبح نائب “الجبهة الديموقراطية”، وهي الواجهة الشكلية للحزب الحاكم. ووضعه ذلك في زاوية إشكالية لم ينج منها في ما بعد. كانت بدايات ترجمات الأرناؤوط لكاداريه هي قصيدته الطويلة “يوميات الجيل”.
أما أولى ترجماته الروائية فكانت رواية “جنرال الجيش الميت”، وهي الرواية التي فتحت له طريق الشهرة، وصدرت الرواية عن “وزارة الثقافة السورية” في 1981، وأتيح لها الانتشار خارج سورية، ثم أتبع ذلك برواية “الحصن” في 1986 التي حظيت بالاهتمام أيضاً. في ذلك الوقت بدأت ترجمة كاداريه إلى اللغات العالمية كالإنكليزية والفرنسية وغيرها، ونجد صدى هذه الترجمات في العربية كرواية “من أعاد دورنتين” بترجمة أنطوان أبو زيد وروايتا “مدينة الحجر” و”الوحش” بترجمة عفيف دمشقية. كما صدرت الرواية الشهيرة “قصر الأحلام” بترجمة حياة الحويك.
تداخل صدور هذه الروايات مع فجر التغييرات في أوروبا الشرقية، والذي وصل تأثيره إلى ألبانيا، كتحدٍ لآخر قلعة للستالينية في أوروبا، ونجحت في تبني تحوّل ديموقراطي منذ نهاية 1990 انتهى بتسلم الحزب الديموقراطي الحكم بعد أول انتخابات حرة.
وتتالت ترجمات الأرناؤوط لروايات كاداريه بإصدار “وزارة الثقافة السورية” رواية “العرس” في 2006 ثم رواية “الملف هـ” في 2008 ورواية “لجنة الاحتفال” في 2009. ولم يكتف الأرناؤوط بترجمة هذه الروايات لكاداريه فألف كتاباً عن مؤلفها بعنوان ” اداريه شاعراً وروائياً: تأملات في أعماله المترجمة إلى العربية”، وفيه قال كلمته الفاصلة حول كاداريه الذي انتُقد لأجل موقعه في النظام الشمولي السابق ولجوئه إلى باريس حينها: “يجب أن يُحكم على عظمة أدب إسماعيل كاداريه بعيداً عن مواقفه السياسية وتحولاته، فالسياسة تتبدّل والإنسان يتغير”. ورغم إشكالية هذا الرأي فإن الاهتمام بأدب كاداريه استمر وانتقل التعريف به إلى بيروت والقاهرة.
ويُلاحظ هنا أن عبد اللطيف الأرناؤوط لم يتوقف عند هذا الكاتب بل قام بترجمة مجايلين له من الكتاب الذين لم يسبق الترجمة لهم والتعريف بهم، لتكون دمشق مركزاً للتعريف بالأدب الألباني في العالم العربي.
إضافة إلى هذه الريادة في ثقافته الأم فإنّ انتماءه إلى الثقافة العربية واهتمامه بالأدب والتأليف والنقد دفعه إلى كتابة المقالة والقصة والدراسات الأدبية والنقدية. هكذا نجد مجموعة من الكتب التي تتناول مسيرة وإبداع عدد من الكتاب والشعراء كعبد السلام العجيلي ومعروف الأرناؤوط وعبد الوهاب البياتي وسليمان العيسى وشفيق جبري وغيرهم. وانحاز الكاتب باهتمام واضح لأدب المرأة رداً على التهميش الذي رآه مجحفاً بحقها، فأصدر عدداً من الكتب حول كتابات غادة السمان وليلى العثمان وعائشة الأرناؤوط وسعاد الصباح وغيرهن في عنوان واحد “الأعمال غير الكاملة”، متناولاً أعمالهن ومسيرتهن الإبداعية.
كما كتب للأطفال مجموعات قصصية وقصائد شعرية صدرت عن “اتحاد الكتاب العرب” و”وزارة الثقافة السورية”.
أما إنتاجه في اللغة الألبانية، فقد كتب مجموعات شعرية منها: “ما وراء الجبال والبحار” و”لهيب الشوق”، وقام بترجمة مسرحية “الغرباء” لعلي عقلة عرسان.
مع هذا الإنتاج المتنوّع، قدّم الأرناؤوط “زبدة القول وخلاصة المسيرة الإبداعية” في كتابه “تجربتي مع الثقافة والأدب”. أما المسيرة الحياتية فخصّها بكتيّب بعنوان “أوراق بعد الستين من العمر”.
هكذا أخلص عبد اللطيف الأرناؤوط لثقافته الأم، فكان رائداً في نقلها إلى اللغة العربية والتعريف بهذه الثقافة المتوارية، كما أخلص لثقافته العربية التي اكتسبها وأحبها وأبدع بها كتبه الكثيرة.
- محسنة الخطيب
- كاتبة من سورية
Comments are closed.