ناتالي حنظل.. حنينٌ لكلّ المنازل الأولى
“في كلّ مكان من المنفى” عنوان مختاراتٌ من قصائد الشاعرة الفلسطينية الأميركية ناتالي حنظل (1969) بترجمة أحمد م. أحمد، صدرت حديثاً عن دار “فواصل” في اللاذقية. كُتبت القصائد بين عامي 2005 و2019، ولعنوان الكتاب ما للقصائد من دلالة على المنفى المتعدّد. كما تحضر في المختارات التراجيديا الفلسطينية المعاصرة واللجوء السوري الراهن، وتجارب العيش في بلدان عديدة بين العالم العربي وأوروبا وأميركا اللاتينية.
في القسم الأول من القصائد، “حيوات المطر” (2005)، تُعيد ناتالي حنظل العالم إلى تصوّراته القديمة الأصيلة، وتستخدم الشعر لفهم مأساة اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه. كما تُعيد صِلاتها بالمدن والثقافة الفلسطينية، ويحضرُ في قصائد هذه المجموعة صوتُ الفلسطيني المُبعَد. إذ تعيد الشاعرة الصراع مع المُحتلّ إلى وجه حضاري مرتبط بالمكان والثقافة: “قصيدةٌ/ ذكرياتُنا المتخمَةُ بالدفاتر البالية/ والطلاء الباهت، والحيطان المتداعية/ فهل علينا، كي نفهمَ هذا المكانَ، أن نفهمَ/ عويلَه، وكي نفهم عويلَه علينا أن نفهمَ أشعارَه/ وكي نفهم أشعارَه/ علينا أن نفهمَ الآلام؟”.
الحُبُّ موضوع لا تغادره، بدءاً من الجسد إلى الانتماء
وفي قصيدة “بيت لحم”، يلمح القارئ التَنائي الذي طال بين المكان وأهلهِ بفعل التهجير. كما يتوضّح على نحو شديد الرّقّة ألّا فصام بينهما، فالمُحتلّ دخيل. وتُشركُ الشاعرة عناصر المكان من شجرٍ وحجر في نصوصٍ تعيدُ المكان إلى البشر الذين صنعوه: “جاؤوا ليقولوا لي إنّي/ لا أفهم المكانَ الذي ورثتُه/ وهكذا سوف يساعدوني على المغادرة”. على ضوء ذلك، شِعرُ ناتالي حنظل شِعرُ قضيّة، غير أنّه شِعرٌ خالٍ من الشعارات النضاليّة. وإنّما هو صوتٌ نسائيّ خافت يسعى إلى إعادة الصِّلات مع جزءٍ من ماضي شعبه، ليأخذ شِعرها مكانه في حيزٍ شخصي وعام. كما ليس شعرها شعراً للعودة، وإنّما هو استعادة للمكان. ونلمح في قصيدة “غرباء في داخلي” صورةَ شاعرةٍ تقيم كي ترحل، ومن خلال تلك اللوعة الأبدية للإقامة والرحيل ينمو الشعر. ونقرأ في قصيدة “بيت لحم”:
“تسكنُ أسرارٌ في المسافة التي تتخلّل خطانا.
وتتردّدُ أصداءُ كلمات جدّيَ في أحلامي،
إذ تحفظ السُّنونُ سبّحتَه ومدينتَه.
رأيتُ بيتَ لحم، وقد غرقتْ في الغبار، خاويةً، مِزْقة جريدةٍ تاهتْ في
شوارعها الضيّقة.
أين ذهب الجميعُ؟ تردِّدُ رسومات الجدران والأحجار.
أين بيت لحم الحقيقية – التي جاء جدّيَ منها؟
ثمة مناديل جفّفتْ الآلام من يديّ.
وتستمرّ أشجار الزيتون والدموعُ بالتذكّر.
أغذّ السير حتى أصلَ عجوزاً عربياً في رداء أبيض.
يرمقني بنظرة ويغادر. ألحق به – أسألُه لماذا يسير مبتعداً؟
يتابع السير. أتوقف، أتلفّتُ حولي، وأُدرِكُ
أنّه ترك لي أسراراً في المسافة التي تتخلّل خطاه”.
في القسم الثاني من الكتاب، “الحُبّ والأحصنة الغريبة” (2010)، يصبح الشعر أداةً للتلّقي، لا للقول. إذ يلمس مناطق غير مدركة من الشعور: “ذات يوم، والخيول تمرّ من أمامي/ ألقى أحدُها في داخلي الغرابةَ”. في هذه المجموعة من القصائد يفترّ الشعر عن تساؤلاتٍ تشيرُ إلى نفسٍ مضطربة توّاقة إلى الحُبّ. ونرى الاضطراب في صورٍ قلقةٍ غير متهادية، مثل “عالية هذي الجبالُ/ وواطئة، واطئة وعالية”، و”لا رغبةَ إلّا الريح”. كما تُجهد الشاعرة نفسها في الاعتراف بتردّدها حيال الحُبّ في قصيدة “سيرة ذاتية للّيل”. وفي قراءة ذاتها الحائرة يلمح القارئ أنّ الشاعرة ــ عبر تلقيّها ما يحدث من حولها ــ تقترب من نفسها أكثر. تسأل: “أما مِن جسرٍ في مكان ما؟”، وتجيب في قصيدة أخرى: “مَن قال إن علينا أن نكون غرباء/ حين نصغي إلى الموسيقا ذاتها؟”. إذاً، تتناسل الأفكار والمفردات واحدةً من الأخرى، وتستخدم الشاعرة كلماتٍ كي تُعرّف كلمات أخرى، خصوصاً في قصيدتها “فراشات سوداء؛ تانغو ضائع”. ونقرأ من قصيدة “انتماء”:
“مائة نفَسٍ تشقُّ الهواءَ
وأنا أستندُ
إلى شجرة الصنوبر الوحيدة التي وجدتُها.
إنْ يكنِ الوقتُ باكراً أم متأخراً، الجوُّ عليلاً أم قائظاً،
فالحقولُ جافّة. الصيف وشيك.
والأحصنةُ أنّى نظرتَ،
عدْوُها غرائبيّ كما في حلم،
لكنّي لا أستطيع أن أتذكر
كيف أناديها،
فأنتحي جانباً، وأرقبُ عبورَها”.
في القصائد المختارة من مجموعتها “شاعرة من الأندلس” (2012) يحضرُ المكان لا بصفتهِ مُحتَلّاً، وإنّما بصفتهِ مقدّساً، وبالتالي مبهماً، وقد تعمّد بالآلام: “أمشي في الشارع الرئيس/ والناس/ كأنهم يعرفون أمراً لا أعرفه/ قد رحل فرانكو/ لكن من الصعب نسيان خارطة العظام/ التي تركها وراءه”. وهي تبحث عمّا يجمعها بالمكان وعن تآلف عدّة أصوات حضارية في داخلها.
يلمح القارئ تعثّرها في الانتماءين، فشعرها إيفاءٌ لانتماءاتٍ تحاول تجديد صلاتها معها. في قصيدة “باقة زهر”، وفي العديد من القصائد المختارة في هذه المجموعة، الحُبُّ موضوع لا تغادره، بدءاً من الجسد (“كيف يصوغ جسدك الهواءَ/ فيسبغ على الفضاء الملامحَ؟”)، إلى الانتماء (“لكي تفهم لماذا/ وأنت تمشي/ ستُملي الأوراقُ/ طريقةَ النبض/ على قلبك/ سيستغرق سنواتٍ”). إذ مع تعثّر تحقّق انتمائها للمكان، كأنّما بدأتْ تبحثُ عن انتماء آخر: “نحتاج أن نلفّقَ شيئاً ما/ يخصّنا: بلدَنا الأمّ/ اللون الأبيض الأخّاذ/ الظلّ المُفرَغ/ والورقة المتأجّجة”. مكانٌ وجدتْهُ الشاعرة في الحُبّ الذي يتناوب مع الزمن لعبتهما الأثيرة. لكنّ المكان، في معظم القصائد، هو ما يوحي بالعاطفة. نقرأ في قصيدتها “سبع نجوم في إشبيلية”:
“الجدران أكثر رقّة الآن،
تتشبث يداي بالصخب الذي تركته وراءك،
الفقد الذي يصمُّ الحُجرة.
انظر، هناك حريق شبَّ تحت البساط الفارسي،
هناك خطّ من الفضّة يتأجّج
حول لُفافتك.
أعطني زنبقةً،
قصّ عليَّ حكاية القمر،
حين باعَدَ ما بين جسدينا
ليفسح مكاناً للحمائم
في قاع قلبينا”.
في “النجم اللا مرئي” (2014)، نقرأ شهادات عن اغتراب أهالي بيت لحم في أميركا اللاتينية، وعن اللجوء السوري. وتحضرُ مفردة “العودة” إلى جانب مفردة الموت، كأنّهما صنوان. وكذلك الحُبّ يلتقي مع الموت في سبيلٍ واحد: “متُّ من جديد سعياً وراءك”. كما في القصائد المختارة من هذه المجموعة حضورٌ لمفردات البيت، وهو بصورة خاصّة البيت العربي في إسبانيا، وفي قصيدة “بيت” نقرأ:
“أحلمُ ببيتٍ حيث الأرواح مُسالمةٌ
حيث تَجسُّدُها رنينٌ في السّواد،
بيِّنَةٌ وبلا تجَلٍّ،
حيث سأنادي كلَّ مَن أعرف
وأولئك الذين لم ألتقِ بهم من قبلُ –
فهل سيُلبّون؟
سأطلب منهم أن يتناولوا غُصناً
من شجرة ويتحلّقوا حول الطاولة –
إذ في كلّ وُريقةٍ نقشٌ عتيق
من الكنعانيين أو الإغريق”.
تتآلف صلتها بفلسطين مع عدّة أصوات حضارية في داخلها
في القسم الأخير من الكتاب، “من الحياة في ألبوم البلاد” (2019)، تجمع قصيدتها “أصل” فلسفتها عن الجسد والحُبّ وعلاقته بالزمان والمكان، وهي قصيدة مُثلى للتعبير عن شعر ناتالي حنظل: ” – لماذا تترجمني؟/ – أريد أن أفهم كلَّ مُفردةٍ في جسدك. / – تعني كلَّ تكوين؟ / – أعني كلَّ نبْرة/ – أتعني حيث لا يمرُّ الزمن؟ / – حيث الماضي هو ما سيأتي. / – ذلك حين نتوصّل إلى مراقبة الوردة في طورِ تحوُّلِها إلى بحر”. في شِعرها إيقاع قصير متصاعدٌ وكلماتها تناوبٌ بين عاشقين يبحثان عن لقاء لا عن هَجر: “والآن حين تخطر أنت على البال، أظنُّ:/ أنك قرّرت ألّا/ تهوى مكاناً آخرَ/ وأنني، سأبقى أقتفي آثارك/ على كامل جسدي/ كما لو أنه خريطة عالَمٍ مثاليّ”. لكنه لقاءٌ يخبّئ خيبتها من أمكنةٍ شَقَّ عليها الانتماء إليها: “الحب ليس كذبة، لكن البلاد كذلك، صحيح؟”. ونقرأ في قصيدة “قطار منتصف الليل إلى جورجيا”:
“لم يكن ابنُ عمّي، النقيبُ في الجيشِ
يتحدث الكثيرَ،
لكنه فيما بعد كتبَ إليها:
ألم يَفقْ هيامي بكِ
الصمتَ في قسوته؟”.
في الكتاب قصائد متفرّقة تحضر فيها المدن العربية مثل حلب ودمشق ويافا وحيفا وصور وعكا. مدنٌ تعرفها، بلا شكّ، ناتالي حنظل التي وُلدت لعائلة من بيت لحم ونشأت بين جمهورية الدومينكان وفرنسا وعاشت وتنقلت في بلدان مثل بريطانيا وإسبانيا وروسيا وأميركا اللاتينية، قبل أن تستقر في الولايات المتحدة. درست حنظل الأدب والفنون في بريطانيا والولايات المتحدة، ونشرت سبع مجموعات شعرية وأنطولوجيا بالإنكليزية للشاعرات العربيات المعاصرات بعنوان “شعر نساء عربيات”، كما شاركت في أكثر من عشرين إنتاج مسرحي ككاتبة أو مخرجة أو منتجة. حازت على العديد من الجوائز، مثل مثل “جائزة نادي القلم في أوكلاند”، و”جائزة الكتاب الفلسطيني”، و”جائزة الكتاب العربي الأميركي”، و”جائزة فيرجينا فوكنر للتميّز في الكتابة”، وهي أستاذة للأدب في “جامعة كولومبيا” الأميركية.
- كاتب من سورية
سومر شحادة
Comments are closed.