المكتب الرئيسي عدن

بيوت ريم البحراني: نوافذ وأضواء من طفولة سعيدة

تكمن أهميَّة الفنّ وسِرّه في أنَّه يَنبعُ من الفِطرة الإنسانيَّة التي تخاطب الآخر، في وجودهِ ووعيهِ للأشياءِ وأُصولها، فتكون الاستجابة لهذا الخِطاب في محاكاتهِ وإيحاءاتهِ وإشاراتهِ استجابةً بديهيَّةً للفنِّ الكامنِ في الذاكرة الإنسانية، في الشعور والميل للأشياء.

في أعمالها النحتيّة، تُمسك الفنّانة العراقيّة، المقيمة بين قطر والسويد، ريم البحراني (1995)، بفكرة البيوت، وتَتَّخذها متلازمةً لها. فكلُّ عملٍ تُقدِّمه يقوم على هذه الفكرة التي تصوِّرُ مجموعةً من البيوت المتجاورة والمتعامدة في كتلةٍ واحدةٍ تزدحم بها، وتُمثِّل صورةً مُكثَّفةً لتجاورها وتلاصقها ببعضٍ في الواقع، فتلوِّنُ بعضَ أعمالها بألوان مُضاءةٍ وغامقةٍ تُميِّزُ بها حوافّ البيوت وأبوابها، فيما تترك الفضاءات المفتوحةِ بألوان أُخرى باهتة. البيوت هنا ليست غُرَفاً ومساحات وأثاثاً… إلخ، بل هي صورة البيت المألوفة، من بابٍ وشبابيكَ وفَتحات التهوية الدائريَّة في الجدار.

تُثير فكرة البيوت في أعمال البحراني ــ الحاصلة على ماجستير في تاريخ الفن من “جامعة يورك” البريطانية ــ عاطفيَّة المُتلقِّي، وتُلامس وجدانه وتستفزّ ذاكرته وتستحضر لحظاته الحميميَّة. فهي تنطوي على الشعور بالاستقرار والخصوصيّة والدفء الشخصي والعائلي، والمساحة التي يأمن فيها الإنسان من التشرُّد والضَّياع. غير أن لبيوتها خصوصيَّة أكبر؛ فهي لا تحاكي تطوّر النسق المعماري في عمليَّة هيكلة البيت وتصميمه ومجاراته للحداثة، بل تحاكي النسق الذي تعارفنا عليه من سنواتٍ بعيدة، النسق البسيط الذي يبدو أقرب إلى هيكليَّة الكوخِ في المخيّلة الطفولية، بسقفه وبوّابته وشبابيكه. وهو نسقٌ يستحضر الماضي بما يمثّله من بساطةٍ وقُربٍ واجتماعٍ وأُلفة، فالأعمال تمثِّل هويةً ورمزاً مشتركاً للإنسانيَّةِ في وجودها وخصوصيَّتها التي صنعتها هذه البيوت بطابعها البسيط.

في إحدى منحوتاتها، تشتغل ريم البحراني على فكرة الإنارة، أي أن يكون لنوافذ البيوت المُتكتِّلة نور يوحي بالإضاءة، فيتمثَّل الانطباع بأنَّه تصويرٌ ليليٌّ لهذه البيوت الآمنة والمنغلقة على نفسها، وكأنَّ في داخلها أُناساً يمارسون خصوصياتهم، كما هو الحال خلف كلِّ بابٍ مغلق، فيما تترك بعض النوافذ بلا إنارةٍ لتوحي بأنَّ ثمّة زوايا شاغرة وأُخرى مشغولة. تلوينٌ صارخٌ تسري فيه كهرباء اللون، فيوحي بأنَّها إنارةٌ حقيقيَّة، إذ إنّها تلوِّن بعض أعمالها، تضيء بعضها، وتترك الأُخرى بلون الطين وطبيعته، أو بالأسود والأبيض.

في معرضها الشخصي الأول في قطر (2021)، وفي المعارض الجماعية التي شاركت فيها في السويد وروسيا وقطر ولبنان، قدَّمت الفنّانة العراقيّة أعمالها بهذه المُتلازمة، وبهذه الحِرفيّةِ والبساطة التي يجدها المُتلقي حاضرةً في روحهِ ومشاعره، فيما تركت الباب مفتوحاً لتأويلاتِ لا تنتهي.

الدوحة

Comments are closed.