اللغة ومكانتها!
كتب/ جهاد العبادي
ــــــــــــــــــــــــــــ
قال الله تعالى في كتابه الكريم:
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
يا لها من لغةٍ!
لغةٌ عُظمتْ في السماءِ قبل الأرضِ وجعلها الله لسانَ دينهِ وكتابهِ إلى قيامِ الساعة.
فلغتنا العربية، هي لغةُ الجمالِ والسحرِ وأمامها تسجدُ جميعُ اللغاتِ مهابةً وإجلالاً.
قال الأمير شوقي:
إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغاتِ مَحاسِنًا
جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضادِ
لغةٌ عرفنا قيمتَها وعلو مكانتِها، ولكن ما يحز في النفسِ أننا تاجهلنا قدرَها واعتمدنا غيرَها في بناءِ معرفتِنا وعلومِنا، ولمْ نعِ إنَّ لغةَ أي أمةٍ تعدُ ميزانًا دقيقًا ومعيارًا أساسيًا في الحفاظِ على هويتِها وتحديدِ ذاتِها ومكانتِها.
والمتبع لحضاراتِ الشعوبِ والأممِ يدركُ أنَّ اللغةَ هي الشريانُ الحيوي للأمةِ، والتي تعكس طبيعةَ حضارتَها، وتمثل مصدرًا هامًا لقوتِها.
فإذا فقدتِ الأمةُ لغتَها، فإنِّها ستفقدُ تأريخَها وحضارتَها، وستواجه تدهورًا في حاضرِها ومستقبلِها.
واللغةُ ليستْ مجرد وسيلة للتواصلِ والتخاطبِ بين الناس، بل هي أحدُ أبرز جوانبِ الهويةِ الإنسانية، إن لم تكنْ الأهم، إذ إنِّها تربط الفردَ بأسرتِه ومجتمعِه ودينِه وثقافتِه.
ولمكانةِ اللغةِ وأهميتها، لمْ يرسلْ اللهُ ﷻ نبيًا إلّا بلسانِ قومهِ أي بلغتهم، وقدْ أخبرنا ذلك في كتابهِ الكريم:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ).
وقال الله تعالى مخاطباً نبيهﷺ: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).
أي: شرفٌ لك ولقومِك أنّا أنزلناه بلغتهم.
يعتزُ الآخرون بلغاتِهم وهي دون العربيةِ مكانةً وقيمةً، وما ذاك إلّا بسببِ إهمالنا للغتنا والسير كالقطيعِ خلف الآخر، لم نحترمْ سلفَنا ولم نسر على نهجهِم، وهم من هم؟
قادةٌ فتحوا الدنيا وفُتحتْ لهم، اعتزوا بدينهِم وهويتهم، وكانوا على لغتهِم أشدَّ حرصاً من كل شيءٍ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا العربيةَ فإنِّها تثبتِ العقلَ، وتزيدُ في المروءةِ).
وقال رضي الله عنه: (تعلموا النحو كما تعلَّمون السننَ والفرائض).
هكذا كانوا حريصين على هذه اللغةِ العظميةِ قدرًا ومنزلةً.
يروى إنّه قيل لعبد الملك بن مروان رحمه الله: لقد عجلَ عليكَ الشيبُ يا أمير المؤمنين، قال: (“شيَّبني ارتقاء المنابرِ، وتوقُّع اللحن”).
واللحنُ في اللغةِ هو الخطأُ في القولِ.
وقال أيضاً: (“كيف لا يعجل (أي الشّيب)، وأنا أعرضُ عقلي على النَّاسِ كلّ جمعةٍ مرةً أو مرتين”).
يا لعظمة هذه اللغة!
حاكم أعظم دولة مرتْ على تاريخ المسلمين، يسأل، فيجيب: شيّبني توقّع اللحنِ، ولم يقلْ شيَّبتني الإمارةُ أو أمورُ الدولةِ والرعية.
كان من سبقونا من كبارِ وعلماءِ هذه الأمة يعدون اللغةَ مقياسًا لنيلِ الإمارةِ والصعودِ على منبرِ الخطابةِ والجلوسِ على كرسي الفتوى وحلقاتِ الذكر، كما يعدونها فخراً لكلِّ من تعلم علومَها وغاصَ في بحورِها، وكلّ ذي لسانٍ عربي يهاب، فاللغةُ ترفعُ الوضيعَ وتكسبه هيبةً وعلمًا ووقارًا حتى يصبح من كبارِ أهل زمانِه، قال أيوب السِّختياني: (تعلموا النحو فإنّهُ جمالٌ للوضيعِ، وتركه هجنَة للشريفِ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اعلم أنَّ اعتيادَ اللغة يؤثِّر في العقلِ، والخلقِ، والدينِ تأثيرًا قويًا بيّنًا، ويؤثِّر أيضاً في مشابهةِ صدرِ هذه الأمة من الصحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدِّينَ والخُلُق).
ويرى شيخنا الإمام الشافعي رحمه الله أنّ التبحر في علوم اللغة يفتح أبوابًا واسعةً للتبحرِ في العلومِ الأخرى، حيث يقول: (من تبحرَ في النحو اهتدى إلى جميعِ العلومِ).
واللغةُ لكلِّ أمةٍ تُعتبر التأريخ بذاتها والجغرافيا، إذ تعكس قوةَ الابتكارِ في الأمةِ، فإذا ضعفتْ قوةُ الابتكار، فإنّ اللغةَ ستتوقف وستؤدي إلى تقهقرِ الأمةِ، وفي النهايةِ يمكن أن يؤدي ذلك إلى الموتِ والاضمحلالِ والاندثار.
ومن الدروس التاريخية نجد أنْ أي دولةٍ لا تتقدم ولا ترتقي من دون أنْ تكون العلومُ والتعليمُ مبنيتين على لغتها الأم، وليس على لغةٍ أجنبية.
ختاماً!
قال عبد الملك بن مروان: (أَصلِحُوا أَلسِنَتَكُم فَإنَّ المَرءَ تَنُوبُهُ النَّائِبَةُ فَيستَعِيرُ الثَّوبَ والدَّابَةَ ولا يُمكِنُه أنْ يَستَعيرَ الِّلسانَ، وَجَمَالُ الرَّجُلِ فَصَاحَتُهُ).
Comments are closed.