الشمس في برج الحوت
قصة قصيرة
وجدان الشاذلي -حضرموت
كانت أمي تثق بي ، وأنا بدوري كنت أثق كثيراً في أستاذ الفيزياء الذي ظل يؤكد لنا على مدار أربعين دقيقة بأن:
” لكل فعل ردة فعل ..”.
هل يفترض أن تكون هذه ردة فعلي ؟!
أترك الفناجين تستريح في قاع الحوض ..أصنع فقاعات صغيرة من رغوة الصابون وأطيرها في الهواء ، وأراقبها كيف تتلاشى وتختفي ..!
وفيما يشبه لعبة الحظ التقط فنجاناً وأفركه جيداً بين يديّ ؛ ولا يذوب !
**
أتذكر بأنني كنت محشوراً بين نهدي عارضة أزياء على غلاف إحدى مجلات الموضة ، حين نادتني أمي :
- أحمد .. أحمد ..
أنتزعت نفسي بقسوة .. وجرجرت قدمي في اتجاه الصوت ..
كانت أمي تجلس القرفصاء على أرضية المطبخ ، منكبة على تنظيف حبوب الأرز من الشوائب..
غير ملتفته :
إذهب إلى البقالة واجلب علبة زيت ، وأخبر العم صالح بأن يضيفها على حساب أبوك . - العم صالح لن يعطي لنا حتى علبة كبريت، قبل أن يسدد أبي حسابه السابق.
نقلت إلى أمي ما قاله العم صالح صاحب البقالة بالحرف الواحد ، دون زيادة أو نقصان .
كررت أمي بدورها ذلك على مسامع أبي .
أتذكر جيداً ..
كيف جاهد أبي يومها بكل كبريائه كي يبقي على تلك الابتسامة على وجهه، أي غصة حملت بها توسلاته ، وكيف كانت ترتطم أبداً بجدار سميك من الإعراض واللامبالاة ، وترتد في اتجاه صدره طعنات مسعورة .. أكتشفت يومها كيف يصبح للكلمة فعل الرصاصة ، وكيف يمكن لعلبة
زيت أن تلتهم أربعين عاماً ، وتفتح ألف باباٍ للشقاء والمعاناة ؟!
**
أضع إبريق الشاي على النار ، وأعود لانتشال بقية الفناجين من حوض الماء .. وأرتبها بعناية بجانب الحوض .
أسكب مسحوق بودرة الحليب في الخلاط ، وأضيف إليها كوباً من الماء الفائر.
أقف مشدوهاً أمام تلك المعركة في جوف الخلاط ..!
الحياة خلاط كبير ..الأشخاص الذين يستسلمون بسهولة لحركتها يعانون بدرجة أقل .
كلما قاومت أكثر وحاولت أن تتحرك في الاتجاه المعاكس ، كان حظك
من المعاناة أكبر وأوفر .
أراقب الحياة من الخارج وكأنني لم أعد جزءا منها ..فقدت كل قدرتي على تكوين أية ردة فعل اتجاه أي شىء ..!
فقط أقف هكذا في وسط الخلاط مستسلماً مثل أي كمية من بودرة الحليب
لاتبدي أية مقاومة ،على استعداد دائم أن تتحول إلى مادة رخوة بقدر ما يتطلب الأمر .
نصف خطوة إلى اليسار الموقد وأنبوبة البوتجاز ، نصف خطوة في اتجاه اليمين الخلاط ، أمد يسراي إلى الأمام بزاوية منفرجة فتصل إلى الصندوق الخشبي الخاص بحفظ النقود ، أحتاج بأن أعود ثلاث خطوات فقط إلى الخلف كي أصل إلى الوعاء الخاص بالسكر ، أو الحليب .
أحفظ حدود عالمي الصغير هذا ظهرا عن بطن ..ولكن يظل دائماً العالم الحقيقي في الخارج .!
**
ما تبقى من أساور أمي كانت كفيلة بفتح الطريق أمامي إلى الجامعة ..
لكنها لم تكن كافية أبداً لتجنبني كل تلك المتصافات من العذابات والمعاناة
على مدار تلك الأعوام الأربعة .
يسألني حسن :
- لماذا لا تدرس ،ألن تدخل الإمتحان غداً ؟!
- لقد درست بما فيه الكفاية.
أجيبه ببرود وأدس رأسي تحت وسادتي .
عند منتصف الليل أغادر فراشي متسللاً .. أقف عند رأس حسن ، وبحذر لص محترف أفتش حقيبته والتقط المذكرة الخاصة بمقرر ( كيمياء الطيف ) ، وعلى رأس أصابعي أغادر الحجرة..أسند ظهري إلى عامود الكهرباء المنتصب في إحدى زوايا باحة السكن الداخلي ، وعلى ضوئه المعموش التهم ما يسعفني الوقت لالتهامه من المقرر ..قبيل صلاة الفجر بقليل أعود إلى الحجرة ، على أطراف أصابعي أيضاً أتجه صوب سرير حسن .. أعيد مذكرته في موضعها ، وأتأكد بأنني وضعتها كما تركها تماماً..
**
بلطف يطرق أحد الزبائن بقفا يمناه زجاج نافذتي ..مستخدماً لغة الإشارة .. أخبره بأن الإبريق مازال يغلي على الموقد ، عليه أن ينتظر بضع دقائق أخرى .
بعد سلسلة من الحركات والإشارات بذراعي وأصابعي يغادر الزبون ، ويعود إلى زاويته عابثاً بأنامله على شاشة هاتفه المحمول ، وأعود أنا إلى مكاني المفضل .. وأسلم جسدي لرأسي .
أصغي باهتمام لوشوشة الماء وهو يغلي بداخل الإبريق..
“يغلي الماء عند مائة درجة مئوية ” .!
تباً للنظريات العلمية ..هناك الكثير من الأشياء في الواقع تغلي وتتبخر حتى تحت درجة الصفر لهذا الوطن !
والأسوأ من ذلك دائماً أن هناك أشياء أخرى لاتتبخر أبداً تحت أي ظرف حراري ، مهما بذلت من جهد أو حذق :
دفتر الديون في بقالة العم صالح ، وجه أبي وكل تلك الخناجر المسعورة التي تنغرس في قلبه ، وبحيرة الملح التي تخبئها أمي تحت وسادتها كل ليلة ..!
بحركة روتينية أرفع غطاء الإبريق وألقي نظرة على حالة الفوران تلك .. أثناء ذلك تنزلق قطرة من البخار المتكثف في بطانة الغطاء ، وتسقط على على مشط قدمي اليسرى فتلسعني حرارتها .. ويفلت غطاء الإبريق من يدي ويرتطم بالأرض محدثاً جلبة كبيرة ..
Comments are closed.